الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته

التالي السابق


ثم اختلفوا بعد اتفاقهم على وجوبها (على كل مسلم) في صفة من تجب عليه من المسلمين، فقال مالك والشافعي: هو من (فضل) أي: زاد (عن قوته) لنفسه (وقوت من يقوته) أي: عياله الذين تلزمه مؤنتهم (يوم الفطر وليلته) ، وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من ملك نصابا أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه وأثاثه وثيابه وفرسه وسلاحه وعبده، ولا يشترط النماء؛ إذ هو شرط وجوب الزكاة لا شرط الحرمان، وفي الخبر: أغني عن المسألة في هذا اليوم، والإغناء إنما يكون من الغنى، والغنى حده الشرع بملك نصاب .

قال العبدري: ولا يحفظ هذا عن غير أبي حنيفة، وحكى ابن حزم عن سفيان الثوري أنه قال: من كان له خمسون دينارا فهو غني، وإلا فهو فقير، قال: وقال غيره: درهما .

وروى الدارقطني حديثا عن عبد الله بن ثعلبة بن صقر عن ابنه رفعه، وفيه: والغني والفقير، أما غنيكم فيزكيه، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطى .

ومال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي إلى مقالة أبي حنيفة، فقال: والمسألة له قوية؛ فإن الفقير لا زكاة عليه، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها منه، وإنما أمر بإعطائها له .

وحديث ثعلبة لا يعارض الأحاديث الصحاح ولا الأصول القطعية، وقد قال: لا صدقة إلا من ظهر غنى، وابدأ بمن تعول. وإذا لم يكن هذا غنيا فلا تلزمه الصدقة اهـ .

قال الولي العراقي: وهو ضعيف، وليس التمسك في ذلك بحديث ثعلبة، وإنما هو بالعموم الذي في قوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس. وقد ذكر ذلك هو في أول كلامه، إلا أننا اعتبرنا القدرة على الصاع لما علم من القواعد العامة، فأخرجنا عن ذلك العاجز عنه اهـ .

وقوله: على كل مسلم خرج منه الكافر الأصلي؛ لما تقدم في الخبر من المسلمين، وهو إجماع قاله الماوردي؛ لأنها طهرة، والكافر ليس من أهلها، والمراد أنه ليس مطالبا بإخراجها، والعقوبة عليها في الآخرة، فعلى الخلاف في تكليفه بالفروع قاله في المجموع، والأصح أنه مكلف بها، وقال السبكي: يحتمل أن هذا التكليف الخاص لم يشملهم؛ لقوله في الحديث: من المسلمين، وأما فطرة المرتد ومن عليه مؤنته فوقوفه على عوده إلى الإسلام، وكذا العبد المرتد ولو غربت الشمس، ومن يلزم الكافر نفقته مرتد لم يلزمه فطرته حتى يعود إلى الإسلام .

كذا في شرح المنهاج، وفي الروضة: يشترط في مؤدي الفطرة ثلاثة أمور: الأول: الإسلام، فلا فطرة على كافر عن نفسه ولا عن غيره إلا إذا كان له عبد مسلم أو قريب مسلم أو مستولدة مسلمة؛ ففي وجوب الفطرة عليه وجهان؛ بناء على أنها تجب على المؤدي ابتداء على المؤدى عنه، ثم يتحمل المؤدي .

قال النووي: أصحهما الوجوب، وصححه الرفاعي في المحرر وغيره، وهو مقتضى البناء .

الأمر الثاني: الحرية: فليس على الرقيق فطرة نفسه ولا فطرة زوجته ولو ملكه السيد عبدا وقلنا بملكه سقطت فطرته عن سيده لزوال ملكه، ولا تجب على المتملك لضعف ملكه، وفي المكاتب ثلاثة أقوال أو أوجه، أصحها: لا فطرة عليه، ولا على سيده عنه .

الأمر الثالث: اليسار: فالمعسر لا فطرة عليه، وكل من لم يفضل عن قوته وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه ما يخرجه في الفطرة فهو معسر، ومن فضل عنه ما يخرجه في الفطرة من أي جنس كان من المال فهو موسر، ولم يذكر الشافعي وأكثر الأصحاب في ضبط اليسار والإعسار إلا هذا القدر، وزاد الإمام: فاعتبر كون الصاع فاضلا عن مسكنه وعبده الذي يحتاج إليه في خدمته ولم يذكره غيره، وهو كالبيان والاستدراك لما أهمله الأولون، وحكى الشيخ أبو علي وجها: أن عبد الخدمة يباع في الفطرة كما يباع في الكفارة، واعلم أن دين الآدمي يمنع وجوب الفطرة بالاتفاق كما أن [ ص: 54 ] الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب يمنعه كما قال الإمام، ثم اليسار إنما بغير وقت الوجوب، فلو كان معسرا عنده ثم أيسر فلا شيء عليه .




الخدمات العلمية