الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
.

الثالث أن لا يخرج بدلا باعتبار القيمة ، بل يخرج المنصوص عليه ، فلا يجزئ ورق عن ذهب ولا ذهب عن ورق وإن زاد عليه في القيمة .

التالي السابق


(الثالث) من الأمور الخمسة: (أن لا يخرج بدلا) في الزكاة (باعتبار القيمة، بل يخرج) الوارد في الحديث (المنصوص عليه، فلا يجزئ ورق) أي: فضة بدلا (عن ذهب) إذا وجبت فيه، (ولا ذهبا) بدلا (عن ورق) إذا وجبت فيه، (وإن زاد عليه في القيمة) كما في الهدايا والضحايا؛ لأن الشرع أوجب علينا، والواجب ما لا يسع تركه ومتى ساغ غيره وسعه تركه فلا يكون واجبا، وبه قال مالك وأحمد، وقال أصحابنا: يجوز دفع القيمة في الزكاة والكفارة وصدقة الفطر والعشر والخراج والنذر؛ لأن الأمر بالأداء إلى الفقير إيجاب للرزق الموعود، فصار كالجزية بخلاف الهدايا والضحايا، فإن المستحق فيه إراقة الدم وهي لا تعقل، ووجه القربة في المتنازع فيه سيدخله المحتاج، وهو معقول .

ومما استدل به أصحابنا ما أخرجه البخاري في صحيحه معلقا في باب العرض في الزكاة ما نصه: قال طاوس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص، وليس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: طاوس هو ابن ذكوان اليماني، وهذا الأثر أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج، وخميص اسم جنس جمعي واحده خميصة، وذكره على إرادة الثوب .

قال الكرماني: هو كساء أسود مربع له علمان، والمشهور بالسين المهملة، قال أبو عبيد: هو ما طوله خمسة أذرع، وليس فعيل بمعنى ملبوس، وقوله: خير إلخ. أرفق؛ لأن مؤنة النقل ثقيلة، فرأى الأخف في ذلك خيرا من الأثقل، فهذا صريح في جواز دفع القيم في الزكاة كما قاله أصحابنا، قال ابن رشيد: والبخاري كثير المخالفة للحنفية، لكن قاده إليه الدليل، وقد تكلموا على هذا الأثر بأوجه منها: أن طاووسا لم يسمع من معاذ فهو منقطع .

والجواب من وجهين: أولا: أن البخاري أورده في معرض الاحتجاج وهذا يقتضي قوته عنده، وثانيا: نقل الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي عن الشافعي أنه قال: "طاوس عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه؛ لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا" ا ه .

ومنها حكى البيهقي عن الإسماعيلي، قال: قال بعضهم: فيه من الجزية بدل الصدقة، فإن ثبت فقد سقط الاحتجاج، ثم قال البيهقي: هذا هو الأليق بمعاذ والأشبه بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ الجنس في الصدقات، وأخذ الدينار أو عدله ثياب اليمن في الجزية وأن يرد [ ص: 95 ] الصدقات إلى فقرائهم، لا أن ينقلها إلى المهاجرين بالمدينة الذين أكثرهم أهل فيء لا أهل صدقة ا ه .

قلت: وهذا الذي حكاه الإسماعيلي عن بعضهم من لفظ الجزية غير مشهور عند المحدثين، ولو كان صحيحا لذكر له سندا، ولو ذكر له سندا نظرنا فيه، لكنه لم يذكر، وكيف يكون ذلك جزية، وقد قال معاذ: مكان الذرة الشعير، ولا مدخل لها في الجزية، وإنما أمره عليه السلام بأخذ الجنس؛ لأنه هو الذي يطالب به المصدق، والقيمة إنما تؤخذ باختيارهم، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: الحب من الحب. الحديث .

والمقصود من الزكاة سد خلة المحتاج؛ فالقيمة في ذلك تقوم مقام تلك الأجناس، فوجب أن تجوز عنها، وهذا كما عين صلى الله عليه وسلم الأحجار للاستنجاء، ثم اتفق الجميع على جوازه بالخرق والخشب ونحوهما؛ لحصول الإنقاء بها كما يحصل بالأحجار، وإنما عين صلى لله عليه وسلم تلك الأجناس في الزكاة تسهيلا على أرباب الأموال؛ لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي عنده، كما جاء في بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم جعل في الدية على أهل الحلل حللا، ويجوز أن يريد معاذ نقل ما زاد عن فقرائهم، ومتى لم يوجد أهل السهمان في بلد نقلت الصدقة، والمراد بالمهاجرين الفقراء منهم كما تقول: الزكاة حق المسلمين، والمراد فقراؤهم .

وذكر البيهقي حديث عطاء بن ياسر عن معاذ، بعثه عليه السلام إلى اليمن، فقال: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل.

قلت: وهذا مرسل، وإمامه لا يحتج بالمراسيل؛ لأن عطاء ولد سنة تسع عشرة فلم يدرك معاذا؛ لأنه توفي سنة ثمان عشرة في طاعون عمواس، ثم لو صح حديث عطاء فظاهره متروك؛ لأن الشاة تؤخذ عن الإبل، وأيضا لو أعطى بعيرا عن خمس من الإبل إلى عشرين جاز عند أصحاب الشافعي، مع أن المنصوص عليه الشياه .

فإن قيل: إنما جوزنا ذلك لأنه عليه السلام قال: والبعير من الإبل، قلنا: فوجب أن يجوز عن خمس من الإبل بعير لا يساوي شاة، فلما لم يجز علمنا أنه بالقيمة، ومنهم من دفع أثر معاذ، وقال: لا حجة فيه على أخذ القيم في الزكاة مطلقا؛ لأنه لحاجة علمها بالمدينة، وإن المصلحة في ذلك .

واستدل به على نقل الزكاة، وأجيب: بأن الذي صدر من معاذ كان على سبيل الاجتهاد فلا حجة فيه، وعورض بأن معاذا كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما كان يصنع .




الخدمات العلمية