الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويكفي مجرد النية لانعقاد الإحرام ، ولكن السنة أن يقرن بالنية لفظ التلبية فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد ، والنعمة لك ، والملك ، لا شريك لك وإن زاد قال : لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغباء إليك لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد .

التالي السابق


(ويكفي مجرد النية لانعقاد الإحرام ، ولكن السنة أن يقرن بالنية لفظ التلبية ) وجه آخر في المذهب أن التلبية من واجبات الإحرام لا من سننه ، ذكره الرافعي ، وحكاه قوام الدين في شرح الهداية عن القدوري ، أي : بالوجوب . قال صاحب البحر : يحتمل أنه أراد بالوجوب الفرضية كما أطلقه عليه الأصحاب في مواضع ، وفي شرح الآثار للطحاوي أن التكبيرة ، والتلبية ركنان من أركان الصلاة ، والحج ، ونقل عن أبي حنيفة أنها فريضة ، فلا يصح الحج بدونها .

قال الطرابلسي في المناسك : أي مرة واحدة حين يشرع ، وما زاد سنة ، وقال السروجي في شرح الهداية ، وابن الهمام ، وصاحب الاختيار : إن التلبية مرة [ ص: 336 ] شرط ، والزيادة سنة ، وأما انعقاد الإحرام بمجرد النية ، ولو لم يلب هو مذهب الشافعي ، وبه قال مالك ، وأحمد ؛ لأنه عبادة ليس في أولها ولا في أثنائها نطق واجب ، وكذلك في ابتدائها كالطهارة ، والصوم ، ونقل عن ابن خيران ، وابن أبي هريرة ، وأبي عبد الله الزبيري مثل قول أبي حنيفة ، وهو أن التلبية شرط لانعقاد الإحرام ، إلا أن عند أبي حنيفة سوق الهدي ، وتقليده ، والتوجه معه يقوم مقام التلبية ، وحكى الشيخ أبو محمد ، وغيره قولا للشافعي مثل مذهبه ، وحكى الحناطي هذا القول في الوجوب دون الاشتراط ، وذكر تفريعا أنه لو ترك التلبية لزمه دم ، وقد علم مما سبق أن النية هي المعتبرة دون التلبية ، فإن لم ينو ولبى ، فقد حكي عن رواية الربيع أنه يلزمه ما لبى به ، وقال في المختصر : وإن لم يرد حجا ، ولا عمرة ، فليس بشيء ، واختلف الأصحاب على طريقين أضعفهما أن المسألة على قولين : أصحهما أن إحرامه لا ينعقد على ما ذكره في المختصر .

والثاني : أنه يلزمه ما سماه ؛ لأنه التزمه بقوله . قال النووي : وهذا القول ضعيف جدا ، وكذا التأويل ضعيف ، والله أعلم .

وعلى هذا لو أطلق التلبية انعقد له إحرام مطلق يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين ، أو أحدهما ، وأصحهما القطع بعدم الانعقاد ، وحمل منقول الربيع على ما إذا تلفظ بأحد النسكين على التعيين ، ولم ينوه ، ولكن نوى الإحرام المطلق فيجعل لفظه تفسيرا ، أو تعيينا للإحرام المطلق ، ويترتب على قولنا السابق النية هي المعتبرة ما لو نوى بالعمرة الحج ، فهو حاج ، ولو كان بالعكس ، فهو معتمر ، ولو تلفظ بأحدهما ونوى القران فقارن ، ولو تلفظ بالقران ، ونوى أحدهما فهو محرم بما نوى ، ثم إذا أحرم مطلقا ما الأفضل من إطلاق الإحرام ، وتعيينه ؟ فيه قولان ، قال في الإملاء : الإطلاق أفضل ، وقال في الأم وهو الأصح التعيين أفضل ، وبه قال أبو حنيفة ؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص ، وعلى هذا فهل يستحب التلفظ بما عينه ؟ فيه وجهان : أصحهما وهو المنصوص لا ، بل يقتصر على النية ؛ لأن إخفاء العبادة أفضل ، والثاني وبه قال أبو حنيفة : نعم لخبر جابر : قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونحن نقول : لبيك بالحج . ولأنه يكون أبعد من النسيان .

(فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك) وهي تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الحاجب في كافيته : ومنها ما وقع مثنى ؛ مثل لبيك ، وسعديك ، وقال شارحها ملا جامي : أي ما وقع على لفظ التثنية ، وإن لم يكن للتثنية ، بل للتكرير والتكثير ، ولا بد من تتميم هذه القاعدة من قيد الإضافة ، أي : مثنى مضاف إلى الفاعل ، أو المفعول لئلا يرد عليه مثل قوله تعالى : ارجع البصر كرتين ، أي : رجعا مكررا كثيرا . وفي جعل المثال تتمة التعريف لإفادة هذا القيد تكلف مثل لبيك أصله ألب لك إلبابين ، أي : أقيم لخدمتك وامتثال أمرك ، ولا أبرح عن مكاني إقامة كثيرة متتالية ، فحذف الفعل ، وأقيم المصدر مقامه ، ورد إلى الثلاثي بحذف زوائده ، ثم حذف حرف من المفعول ، وأضيف المصدر إليه . ويجوز أن يكون من لب بالمكان بمعنى ألب ، فلا يكون محذوف الزوائد . أهـ .

اعلم أن لبيك من التلبية ، وهو مصدر لبى ، أي : أجاب الداعي ، واختلف في الداعي هنا ، فقيل : هو الله تعالى ، وقيل : هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : هو إبراهيم - عليه السلام - ، وهذا هو المختار لما سبق ، وهو مستثنى عند سيبويه ، والجمهور ، وهو الصحيح ، وهذه التثنية ليست حقيقية ، بل هي للتكثير ، والمبالغة ، واختلفوا في اشتقاقها ، ومعناها ، فقيل : إنها من ألب بالمكان ، ولب به إذا أقام فيه ، وهو قول الفراء ، وقال الخليل : إنها من قولهم : داري تلب داره ، أي : تواجهها ، فمعناها اتجاهي ، وقصدي إليك ، وقيل : إنها من قولهم : امرأة لبة لزوجها ؛ أي : محبته ، فمعناها محبتي لك ، وقيل : من قولهم : حب لباب ، أي : خالص محض ، فمعناها إخلاصي لك .

قال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي : قال إبراهيم الحراني في معناها : أي : قربا منك وطاعة ، والإلباب القرب ، وقال أبو نصر : معناها أنا ملب بين يديك أي خاضع . أهـ .

وقوله : (إن الحمد ، والنعمة لك ، والملك ، لا شريك لك) هذه الجملة من بقية تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الرافعي : قوله : إن قد يكسر على تقدير الابتداء ، وقد يفتح على معنى لأن الحمد لك . وقال النووي في زيادات الروضة : الكسر أصح ، وأشهر ، والله أعلم .

وقال في شرح مسلم : الكسر ، والفتح وجهان مشهوران لأهل الحديث ، وأهل اللغة . قال الجمهور : الكسر أجود . قال الخطابي : الفتح رواية العامة ، وقال ثعلب : الاختيار الكسر ، وهو أجود في المعنى من الفتح ، لأن من كسر جعل معناه أن الحمد والنعمة لك على كل حال . أهـ . وقال [ ص: 337 ] محمد بن الحسن والكسائي والفراء وثعلب إن من قوله : إن الحمد بكسر الهمزة على الاستئناف لزيادة الثناء . وقال أبو حنيفة وآخرون : إنها بفتح الهمزة على التعليل .

قال الزيلعي : وبالكسر لا يتعين الابتداء ؛ لأنه يجوز أن يكون تعليلا ، ذكره صاحب الكشاف ، وربما يعطي ظاهر سياقه أن اختيار أبي حنيفة الكسر ، واختيار الشافعي الفتح ، وهو خلاف ما أسبقناه عن النووي وغيره ، وقال في الهداية : قوله : إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداء لا بناء إذ الفتحة صفة الأولى . . أهـ .

وقال في الينابيع : الكسر أصح . وقال في العناية : مراد صاحب الهداية الحقيقة ، وهي المعنى القائم بالذات لا الصفة النحوية ، وتقديره ألبي أن الحمد والنعمة لك ؛ أي : وأنا موصوف بهذا القول . وقيل : المراد به التعليل ؛ لأنه يكون بتقدير اللام ، أي : ألبي لأن الحمد لك ، وفيه بعد . وقيل : مراده أنه صفة التلبية ، أي : ألبي تلبية هي أن الحمد لك ، وعلى هذا قيل من كسر فقد عم ومن فتح فقد خص . وقوله : والنعمة لك ، المشهور فيه نصب النعمة ، قال عياض : ويجوز رفعها على الابتداء ، ويكون الخبر محذوفا ، قال ابن الأنباري : وإن شئت جعلت خبر إن محذوفا تقديره : إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك . وقوله : والملك فيه وجهان أيضا ، أشهرهما النصب عطفا على اسم إن ، والثاني الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الخبر المتقدم عليه ، ثم إن لفظ التلبية على الوجه الذي تقدم أخرجه الأئمة الستة في كتبهم من طرق مختلفة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي هكذا ، فروى مسلم عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر ، ونافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال . . . فذكره . قالوا : وكان عبد الله بن عمر يقول تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عمر قال : تلقفت التلبية من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل حديثهم . وعن سالم ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبيا . . . فذكره إلى قوله : "لا شريك " لا يزيد على هؤلاء الكلمات ، وأخرجه البخاري كذلك ، ومن حديث عائشة قالت : إني لأعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي . . . فذكره .

قال الرافعي : والأحب أن لا يزيد على هذه الكلمات ، بل يكررها ، وبه قال أحمد . وعن أصحاب أبي حنيفة أن الأحب الزيادة فيها .

قلت : الذي قاله أصحابنا أن الأحب أن لا ينقص من هذه التلبية لأنها المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن زاد عليها جاز . وقال القدوري في شرحه : استحب بدل جاز وإليه يشير قول المصنف : (وإن زاد قال : لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغباء إليك والعمل) وهي زيادة ابن عمر ، رواه مسلم من طريق نافع : كان ابن عمر يزيد مع هذا : لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل ، ومن طريق سالم كان ابن عمر يقول : كان عمر بن الخطاب يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والرغباء إليك والعمل ، ولم يذكر البخاري زيادة عمر ولا زيادة ابن عمر ، وقد رواها أيضا أبو داود والنسائي عن نافع ، وابن ماجه ومسلم أيضا من طريق عبيد الله بن عمر ، وقوله : وسعديك إعرابها وتثنيتها كما سبق في لبيك ، أي : أسعدك إسعادا بعد إسعاد ، بمعنى أعينك إلا أن أسعد يتعدى بنفسه ، بخلاف ألب فإنه يتعدى باللام ، وقوله : والخير بيديك أي الخير كله في قبضتك وملكك ، وقوله : الرغباء إليك فيه ثلاثة أوجه : فتح الراء والمد وهو أشهرها ، وضم الراء والقصر وهو مشهور أيضا ، وحكى أبو عبيدة فيه الفتح مع القصر مثل سكرى واستغرب ، وقوله : والعمل أي : والعمل كله لله ؛ لأنه المستحق للعبادة وحده ، وفيه حذف ، والتقدير : والعمل لك أو والعمل إليك ، أي القصد به والانتهاء به إليك لتجازي عليه .

وروى ابن المنذر والبزار من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في تلبيته : (لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا ) وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وساقه بسنده مرفوعا ورجح توقفه ، ووقع عند الرافعي لبيك حقا حقا ، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الزكاة ، ويستحب إذا فرغ من التلبية يقول : (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) رواه الدارقطني وأبو ذر الهروي في مناسكه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأن يسأل الله رضوانه والجنة ، ويستعيذ برحمته من النار كما رواه الشافعي من [ ص: 338 ] حديث خزيمة بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة ، واستعاذ برحمته من النار ، ثم يدعو بما أحب ، ولا يتكلم في أثناء التلبية بأمر ونهي وغير ذلك ، لكن لو سلم عليه رد ، نص عليه .

قال النووي : ويكره التسليم عليه في حال التلبية .




الخدمات العلمية