الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم إذا أصبح يوم النحر خلط التلبية بالتكبير فيلبي ، تارة ، ويكبر أخرى فينتهي إلى منى ومواضع الجمرات وهي ثلاثة فيتجاوز الأولى والثانية فلا شغل له معهما يوم النحر حتى ينتهي إلى جمرة العقبة وهي على يمين مستقبل القبلة في الجادة والمرمى مرتفع قليلا في سفح الجبل ، وهو ظاهر بمواقع الجمرات ويرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بقدر رمح وكيفيته أن يقف مستقبلا القبلة وإن استقبل الجمرة فلا بأس ويرمي سبع حصيات رافعا يده ويبدل التلبية بالتكبير ويقول مع كل حصاة : الله أكبر على طاعة الرحمن ورغم الشيطان اللهم تصديقا بكتابك واتباعا لسنة نبيك

التالي السابق


(ثم إذا أصبح يوم النحر) سار على هنيته كما في حديث الفضل بن عباس في الصحيحين، (وخلط التكبير بالتلبية، فليلب تارة، ويكبر أخرى) .

نقل مثل ذلك عن القفال حيث قال: إن رحلوا من مزدلفة مزجوا التلبية بالتكبير في ممرهم، وكان المصنف تبعه قال الإمام: لم أر هذا لغيره هكذا، نقله الرافعي، قلت: والذي ورد حال الإفاضة من جمع إلى منى التلبية فقط، ففي حديث ابن عباس في الصحيحين: فما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة. وعندهما أيضا من حديث ابن مسعود أنه لبى حين أفاض من جمع فقيل أعرابي هذا، فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، يقول في هذا المكان: لبيك اللهم لبيك، وعنه أنه قال: ذلك بجمع أخرجه مسلم، وفي رواية أنه لبى غداة جمع فقال: الناس من هذا الأعرابي، فقال عبد الله: لبيك عدد الحصى والتراب، ثم قال: ما بال الناس، أضل الناس أم نسوا، ثم ذكر معنى ما تقدم .

أخرجه سعيد بن منصور وروي عنه مثل ذلك في حال التوجه من عرفة إلى منى، وأنكر عليه وأجاب بمثل ذلك، ولعل الإنكار تكرر عليه فلا تضاد بين الروايات، وتخصيص ابن مسعود سورة البقرة بالذكر لأنها أكثر اشتمالا على مناسك الحج، وأخرج رزين في التجريد عن عثمان أنه دفع حين أسفر فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وأخرج أحمد عن عكرمة، قال: أفضت مع الحسين بن علي من المزدلفة فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فسألته فقال: أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة (فينتهي إلى منى) وحدها من آخر وادي محسر إلى العقبة التي يرمي بها الجمرة يوم النحر، (ومواضع الجمرات) فيوافيها بعد طلوع الشمس، (وهي ثلاث) جمرات (فيجاوز الأولى والثانية فلا شغل له معهما يوم النحر حتى ينتهي إلى جمرة العقبة وهي) في موضع حضيض الجبل (عن يمين مستقبل القبلة) ، أي السائر إلى مكة (في الجادة والمرمى مرتفع قليلا في سفح الجبل، وهو ظاهر بمواقع الجمرات) ، وينبغي أن لا يعرج الناسك إذا أفاض من مزدلفة، وأتى منى على شيء قبل رمي جمرة العقبة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحية منى فلا يبدأ بشيء قبلها، وهي آخر الجمرات مما يلي مكة، (ويرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بقيد رمح ) .

أخرج البخاري ومسلم عن جابر قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله، وقال: لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، وعنه قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على 7 جمرات، وجعل يلطم أفخاذنا، ويقول: أبيني لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، أخرجه أبو داود، واستدل بظاهر هذه الأحاديث من قال: لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الشمس، وهو قول كثير من أهل العلم، وذهب قوم إلى جوازه بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، وذهب الشافعي إلى جوازه بعد نصف الليل، وكيفية الرمي أن يقف مستقبل القبلة وإن استقبل الجمرة فلا بأس (ويرمي سبع حصيات) هذا بيان كيفية الوقوف لرمي جمرة العقبة، وبيان حصى الجمرة .

ففي حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من بطن الوادي بسبع حصيات، وأخرج أبو داود عن سليمان بن عمر وابن الأحوص عن أمه أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي، وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه لما رمى جمرة العقبة جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه وقال: هذا مقام الذي [ ص: 396 ] أنزلت عليه سورة البقرة، وفي رواية: أنه استبطن الوادي فاستعرضها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، فقال: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

وأخرج الترمذي عنه أنه استبطن الوادي، واستقبل الكعبة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، ثم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. الحديث، وقال: حسن صحيح، وربما توهم تضاد بين الحديثين، وليس كذلك، فإن قوله: من ههنا، إشارة إلى بطن الوادي، وقوله: هذا مقام، إشارة إلى هيئة الوقوف للرمي، ويكون ابن مسعود قد رمى مرتين في عامين وافق في إحداهما كمال السنة، والأخرى أصاب فيها بعض السنة، وفاته البعض إما لجمام الدابة، أو كثرة الزحام، أو عذر غير ذلك .

قال المحب الطبري: وقد اختلف أصحابنا في كيفية الوقوف للرمي، والمختار استقبال الجمرة ومنى عن يمينه ومكة عن يساره، كما تضمنه حديث مسلم، وقيل: يستقبل الكعبة كما تضمنه حديث الترمذي، وقيل: يستدبر القبلة، ويستقبل الجمرة، وبه قطع الشيخ أبو حامد اهـ .

وأما كيفية الرمي فلم يذكرها المصنف، وأخرج أبو داوود من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكبا، ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى، ورمى الناس معه، وأخرج أحمد عن حرملة بن عمر، وقال: حججت حجة الوداع فلما وقفنا بعرفات، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا إحدى أصبعيه على الأخرى، فقلت لعمي: ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول: ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف، قال بعض أهل العلم: يضع الحصاة على طرف إبهامه، ثم يخذفها بمسبحته، أو بين أصبعيه السبابتين .

وقال أصحابنا: قولهم: رمي سبع حصيات أي سبع رميات بسبع حصيات فلو رماها دفعة واحدة كان عن واحدة; لأن المنصوص عليه سبع متفرقة، والتقييد بالسبع لمنع النقص لا لمنع الزيادة حتى لو زاد على السبع لم يضره كذا في المحيط، وإن كان خلاف السنة .

واختلفوا في كيفية الرمي على قولين: أحدهما أن يضع أطراف إبهامه اليمنى على وسط السبابة، ويضع الحصاة على ظاهر الإبهام كأنه عاقد سبعين فيرميها، وعرف منه أن المسنون في كون الرمي باليد اليمنى، والآخر أن يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد عشرة وهذا في التمكن من الرمي به مع الزحمة والوهجة عسر، وقيل: يأخذها بطرفي إبهامه وسبابته، وهذا هو الأصح; لأنه الأيسر المعتاد، وصححه صاحب "النهاية والولوالجي "، وهذا الخلاف في الأولوية لا في أصل الجواز فلا يتقيد بهيئة دون هيئة، بل يجوز كيف كان، واختلفوا في قدر الحصى فقيل: أصغر من الأنملة طولا وعرضا .

وقيل: مثل بندقة القوس، وقيل: قدر النواة، وقيل: قدر الحمصة، وقيل: قدر الباقلا قيل: هو المختار، وهذا بيان الاستحباب، وأما الجواز فيجوز، ولو بالأكبر مع الكراهة كما تقدم شيء من ذلك، وأما مقدار موضع الرمي، فقال صاحب الهداية: أن يكون بين الرامي، وبين موضع الرمي خمسة أذرع كذا روى الحسن عن أبي حنيفة لأن ما دون ذلك يكون طرحا، ولو طرحها طرحا أجزأه; لأنه رمى إلى قدميه إلا أنه خالف السنة، ولو وضعها وضعا لم يجزه; لأنه ليس برمي، ولو رمى فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه; لأن هذا المقدار مما لا يمكن الاحتراز عنه، ولو وقعت بعيدا عنها لا يجزئه; لأنه لم تعرف قربة إلا في مكان مخصوص قال ابن الهمام: وما قدر به بخمسة أذرع في رواية الحسن فذلك تقدير أقل ما يكون بينه وبين المكان المسنون، والله أعلم .

وقال الرافعي: ولا ينزل الراكبون حتى يرموا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: وهو في حديث جابر الطويل إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة على راحلته من بطن الوادي، وأيضا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، يقول: لتأخذوا عني مناسككم. أخرجاه، وعند الترمذي عن قدامة بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أبو داود، وقال: على ناقة صهباء، قال المحب الطبري: اتفق أهل العلم على جواز الرمي راكبا، واختلفوا في الأفضل فاختار قوم الركوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم، واختار [ ص: 397 ] قوم المشي، وقالوا: كان ركوبه لتبيين الجواز، وليشرف على الناس حتى يسألوه، ثم قول المصنف: سبع حصيات هو الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة.

وقد اختلفوا في ذلك والذي ذهب إليه الجمهور أن رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي الجمرات الثلاث أيام التشريق كل جمرة منها سبع حصيات السنة الثابتة في ذلك وعمل الأمة، وقد روي عن سعد بن مالك أنه إن رمى بست أجزأه كما عند النسائي، وكذا عند أبي مجلز نحوه .

وحكى الطبري عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة سبع تكبيرات أجزأه ذلك، وقال: إنما جعل الرمي في ذلك بالحصى سببا لحفظ التكبيرات السبع، وقال عطاء: إن رمى بخمس أجزأه، وقال مجاهد: إن رمى بست فلا شيء عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاوس أنه سئل عن رجل رمى الجمرة بست، قال: يطعم تمرة، أو لقمة، ثم قال المصنف، (رافعا يده) أي حتى يرى بياض إبطه (ويبدل التلبية بالتكبير) .

أخرج ابن ماجه عن ابن عباس، وفيه: فلما رماها قطع التلبية، وعند البخاري ومسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، (ويقول مع كل حصاة: الله أكبر) ، قال الرافعي: والسنة أن يكبروا مع كل حصاة ويقطعوا التلبية إذا ابتدؤوا الرمي، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رماها، والمعنى فيه: أن التلبية شعار الإحرام، والرمي أحد أسباب التحلل اهـ .

قلت: التكبير مع كل حصاة، جاء في حديث جابر الطويل، وفي حديث ابن عمر نحوه، أخرجه البخاري تعليقا، وعن عطاء قال: إذا رميت الجمرة فكبر وأتبع الرمي التكبيرة، أخرجه سعيد بن منصور وقال أصحابنا: هذا بيان للأفضل، ولو هلل، أو سبح أجزأه لحصول التعظيم بالذكر، وهو من آداب الرمي، وظاهر الرواية أنه يقتصر على التكبير، أي يقول: الله أكبر، ومنهم من زاد، فقال: ويقول (على طاعة الرحمن ورغم الشيطان) ، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن يزيد رغما للشيطان وحزبه وقال بعضهم: يزيد على ذلك (اللهم تصديقا لكتابك واتباعا لسنة نبيك) ، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه لما رمى جمرة العقبة، قال: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وعن ابن عمر أنه كان يرمي الجمار، ويقول مثل ذلك، وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يحبون للرجل إذا رمى جمرة العقبة أن يقول ذلك، قيل له: نقول ذلك عند كل جمرة، قال: نعم. إن شئت.




الخدمات العلمية