وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل .
والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل .
فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد ، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط ، وفيه عزل للعقل عن تصرفه ، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص : ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها . لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا
وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد ، وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق مقتضى الاسترقاق .
وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى .
وأما الشوق فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل ، وأنه وضع على مثال حضرة الملوك .
فقاصده قاصد إلى الله عز وجل وزائر له وإن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول نور النظر إلى وجه الله عز وجل ، ولا تطيق احتماله ، ولا تستعد للاكتحال به لقصورها وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ولكنها بقصد البيت ، والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم .
فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل .
وأما العزم فليعلم أنه بعزمه قاصدا إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجها إلى زيارة بيت الله عز وجل وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه خطير أمره وأن من طلب عظيما خاطر بعظيم .
وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه ، والمقصود غيره . وليجعل عزمه خالصا لوجه الله سبحانه بعيدا عن شوائب الرياء والسمعة
فليصحح مع نفسه العزم ، وتصحيحه بإخلاصه ، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .