الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قيل : أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد ، والعبد على المولى ، والزوجة على الزوج ، والتلميذ على الأستاذ ، والرعية على الوالي مطلقا ، كما يثبت للوالد على الولد ، والسيد على العبد ، والزوج على الزوجة ، والأستاذ على التلميذ ، والسلطان على الرعية ، أو بينهما فرق ؟ فاعلم أن الذي نراه أنه يثبت أصل الولاية ، ولكن بينهما فرق في التفصيل ، ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد فنقول : قد رتبنا للحسبة خمس مراتب ، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما : التعريف ، ثم الوعظ والنصح باللطف وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان ، وهل له الحسبة بالرتبة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه هذا فيه نظر وهو بأن يكسر مثلا عوده ويريق خمره، ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين، إذا كان صاحبه معينا ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه ، والمنقورة في خشب بيته ، ويكسر أواني الذهب والفضة ، فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب ، بخلاف الضرب والسب ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه ، إلا أن فعل الولد حق ، وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام ، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك ، بل يلزمه أن يفعل ذلك ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر ، وإلى مقدار الأذى والسخط فإن كان المنكر فاحشا ، وسخطه عليه قريبا ، كإراقة خمر من لا يشتد غضبه ، فذلك ظاهر وإن كان المنكر قريبا والسخط شديدا، كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان، وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب، وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره، فهذا كله مجال النظر فإن قيل: ومن أين قلتم : ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل ، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاما من غير تخصيص وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات فنقول : قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم ؛ إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حدا ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه ، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر ، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته وقد ورد في ذلك أخبار ، وثبت بعضها بالإجماع .

فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة ، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة ، بل أولى ، وهذا الترتيب أيضا ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج، فهما قريبان من الولد في لزوم الحق ، وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح ، ولكن في الخبر أنه : لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وهذا يدل على تأكيد الحق أيضا وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد ، فليس لها معه إلا التعريف والنصح فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته ، وردها إلى الملاك، وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير، وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته وذلك محظور ، ورد النهي عنه .

كما ورد النهي عن السكوت على المنكر فقد تعارض فيه أيضا محذوران ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه ، وذلك مما لا يمكن ضبطه وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف ؛ لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه ؛ فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده ، فقال : يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه .

التالي السابق


(فإن قلت: أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد، والعبد على السيد، والزوجة على الزوج، والتلميذ على الأستاذ، والرعية على الوالي مطلقا، كما تثبت للوالد على الولد، والسيد على العبد، والزوج على الزوجة، والأستاذ على التلميذ، والسلطان على الرعية، أو بينهما فرق؟ فاعلم أن الذي نراه أنه يثبت أصل الولاية، ولكن بينهما فرق في التفصيل، ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد [ ص: 24 ] فنقول: قد رتبنا) فيما سبق (للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين: وهو التعريف، ثم الوعظ والنصح باللطف) ولين القول، (وليس الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد) والزجر (ولا بمباشرة الضرب) بالفعل، (وهما الرتبتان الأخريان، وهل له الحسبة بالرتبة الخامسة حيث يؤدي إلى أذى الوالد وسخطه) عليه (هذا فيه نظر) ، ووجه النظر أن رضا الوالد مطلوب على كل حال، فهل يقدم على الاحتساب؟ والاحتساب أيضا مأمور به، فهل يقدم عليه، ولو أدى ذلك إلى السخط فصار الأمر ملتبسا؟ ثم بين ما به يتأذى ويسخط، فقال (وهو بأن يكسر مثلا عوده) الذي يضرب به للغناء، (ويريق خمره، ويحل الخيوط من ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته) وتحت حوزته (من المال الحرام الذي غصبه) من إنسان (أو سرقه) من حرز مثله، (أو أخذه عن إدرار ورزق من ضريبة المسلمين، إذا كان صاحبا معينا) لا مجهولا، (أو يبطل الصور المنقوشة على حيطانه، والمنقورة في خشب بيته، ويكسر أواني الذهب والفضة، فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب، بخلاف الضرب) باليد (والسب) باللسان، (ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد) ذلك (حق، وسخط الأب منشؤه حبه للباطل والحرام، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك، بل يلزمه أن يفعل ذلك) وهو أقيس القولين، (ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر، وإلى مقدار الأذى والسخط) ، فإن كلا منهما يختلف قلة وكثرة وخفة وثقلا، (فإن كان المنكر فاحشا، وسخطه عليه قريبا، كإراقة خمر من لا يشتد غضبه، فذلك ظاهر، فإن كان المنكر قريبا والسخط شديدا، كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صورة حيوان، وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب، وليس تجرى هذه المعصية مجرى الخمر وغيره، فهذا كله مجال النظر) أي: محل جولان النظر فيه، (فإن قيل: ومن أين قلتم: ليس له) أي: للولد (الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاما) أي: بصيغة العموم (من غير تخصيص) لشخص دون شخص، (وأما النهي عن التأفيف والإيذاء) في قوله تعالى: فلا تقل لهما أف ، وقوله تعالى: ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، (فقد ورد وهو) مسلم، لكنه (خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات) فلا يقاس ذلك على هذا، (فنقول: قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء في العموم؛ إذ لا خلاف) بين العلماء (في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه حدا) وفي نسخة: بالزنا، (ولا أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته) كل ذلك؛ لهيبة الأب، (وقد ورد في ذلك أخبار، وثبت بعضها بالإجماع) قال العراقي : لم أجد فيه إلا حديث: لا يقاد الوالد بالولد. رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر، قال الترمذي: فيه اضطراب. اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وابن الجارود والدارقطني، وقال: سنده ضعيف. ورواه الدارقطني أيضا في الأفراد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال البيهقي في المعرفة: وإسناده صحيح، وروى الحاكم والبيهقي من حديث عمر بلفظ: لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده، (فإذا لم يكن له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع جناية مستقبلة متوقعة، بل أولى، وهذا الترتيب أيضا ينبغي أن يجرى في العبد والزوجة مع السيد والزوج، فهما قريبان من الوالد [ ص: 25 ] في لزوم الحق، وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح، ولكن ورد في الخبر أنه: لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) تقدم في النكاح، (وهذا يدل على تأكيد الحق أيضا) وحديث عمر الذي تقدم قريبا: لا يقاد مملوك من مالكه، كذلك صريح في لزوم حق السيد على العبد، (وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيه أشد من الوالد، فليس معه إلا التعريف والنصح) اللطيف، (فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على آخذ الأموال) المغصوبة (من خزائنه، وردها إلى الملاك، وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير، وكسر الخمور في بيته يكاد يفضي إلى خرق) حجاب (هيبته وإسقاط حشمته) من أعين الرعية (وذلك محذور، ورد النهي عنه) ، وفي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فليخل به؛ فإن قبلها قبلها، وإلا قد كان أدى الذي عليه والذي له.

رواه الحاكم في المستدرك من حديث عياض بن غنم الأشعري، وقال: صحيح الإسناد، وتعقب، وقد رواه أيضا الطبراني في الكبير، ورواه البيهقي عن عياض بن غنم، وهشام بن حكيم معا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله. رواه الترمذي عن أبي بكرة وحسنه، ورواه الطبراني في الكبير بزيادة: ومن أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله في الدنيا أهانه الله يوم القيامة.

(كما ورد النهي عن السكوت عن المنكر) في أخبار تقدم ذكرها، (فقد تعارض فيه أيضا محذوران، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر) وعدمه، (ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه، وذلك مما لا يمكن ضبطه) ؛ لاختلافه بحسب المواقع والأحوال والأشخاص والأزمان، (وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف؛ لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه؛ فله أن يعامله بموجب عمله الذي تعلمه منه) ليكون عاملا بعلمه (وروي أنه سئل الحسن) البصري رحمه الله تعالى (عن الولد كيف يحتسب على والده، فقال: يعظه) بلطف (ما لم يغضب) عليه، (فإن غضب سكت عنه) ؛ دفعا لمحذور المخالفة .




الخدمات العلمية