الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث : أن يتوب عن صغيرة أو صغائر ، وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة ، كالذي يتوب عن الغيبة ، أو عن النظر إلى غير المحرم ، أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر ، فهو أيضا ممكن ، ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ، ونادم على فعله ندما إما ضعيفا ، وإما قويا ، ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجودا ، ولكن لا يكون مليا بتحريك العزم ، ولا قويا عليه ; فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف ، قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية ، وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة ما بالغيبة ، وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم ، وخوفه من الله قد بلغ مبلغا يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية ، فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك ، بل يقول هذا الفاسق في نفسه إن قهرني الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي ، فلا ينبغي أن أخلع العذار ، وأرخي العنان بالكلية ، بل أجاهده في بعض المعاصي ، فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ، ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم ، ولقيل له : إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله ; فإن أمر الله فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب بترك الفسق ، وهذا محال بأن ، يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان وأنا مليء ، في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه ، وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عني بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا ، وهو حال كل مسلم ، إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته وسبب ، له إلا هذا ، وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها ، والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم ، والندم يورث العزم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الندم توبة » ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ولم يقل : التائب من الذنوب كلها ، وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل أن : التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة ; لأنها متماثلة في حق الشهوة ، وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى ، نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ ; لتفاوتهما في اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون القليل ; لأن لكثرة الذنوب تأثيرا في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ، ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة ، فإنه قد يتناول قليلها ، ولكن لا يستكثر منها ، فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ، ولا يتوب عن مثله ، بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفا لما بقي عليه ، إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة ، وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم ، فيتصور اختلاف حاله في الترك ، فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي .

فإن قلت : هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة فأقول لا لأن التوبة عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه ، لا بتركه إياه ولكني ، أقول لو : طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه ، وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية ، لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة ، وتغلبها ، فإني أرجو أن يكون ذلك مكفرا لذنبه وماحيا عنه سيئته إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة ، وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ، ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغا أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده ، فإذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ ، إلا أنه لا يعرفه من نفسه ، فإن كل من لا يشتهي شيئا يقدر نفسه قادرا على تركه بأدنى خوف ، والله تعالى مطلع على ضميره ، وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه ، بل الظاهر أنه يقبله .

والحقيقة في هذا كله ترجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين : أحدهما حرقة الندم ، والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ، ولكن ليس محالا أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ، ولولا هذا لقلنا : إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة ، وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلا .

فإن قلت : إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها ، فأيهما أفضل ، فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه ; فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني إن المجاهد أفضل ; لأن له مع التوبة فضل الجهاد وقال علماء البصرة : ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة .

التالي السابق


(الثالث: أن يتوب على صغيرة أو صغائر، وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة، كالذي يتوب عن الغيبة، أو عن النظر إلى غير المحرم، أو ما يجري مجراه) من الصغائر، (وهو مصر على شرب الخمر، فهو أيضا ممكن، ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف على معاصيه، ونادم على فعله ندما إما ضعيفا، وإما قويا، ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة) والغرة بالله تعالى، (وأسباب توجب قوة الشهوة) من السعة والفراغ وتمكن القوة، (فيكون الندم موجودا، ولكن لا يكون مليا) أي: قادرا (بتحريك العزم، ولا قويا عليه; فإن سلم عن شهوة) هي (أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف، قهر الخوف الشهوة وغلبها) ، وكسر شهوتها، (وأوجب ذلك ترك المعصية، وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر) أي: لهجه وولعه بها، (فلا يقدر أن يصبر عنه) أي: عن شربها، (وتكون له ضراوة ما بالغيبة، وثلب الناس) في الأعراض، (والنظر إلى غير المحرم، وخوفه من الله قد بلغ مبلغا يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية، فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك، بل يقول هذا الفاسق في نفسه إن قهرني الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي، فلا ينبغي أن أخلع العذار، وأرخي العنان بالكلية، بل [ ص: 587 ] أجاهده في بعض المعاصي، فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي، ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم، ولقيل له: إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح) أصلا، (وإن كانت لله فاترك الفسق لله; فإن الأمر لله واحد) ، وفي نسخة: أمر الله فيه واحد، (فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب إليه بترك الفسق، وهذا محال، بل يقول) الفاسق: (لله تعالى علي أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان، وأنا مليء) أي: قادر (في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في) الأمر (الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه، وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عني بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي) وغلبتها علي، (فكيف لا يتصورها هذا، وهو حال كل مسلم، إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله تعالى ومعصيته، ولا سبب له إلا هذا، وإذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها، والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم، والندم يورث العزم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة") قد تقدم ذكره قريبا، (ولم يشترط الندم على كل ذنب) ، بل هو مطلق، (وقال صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له") تقدم ذكره قريبا، (ولم يقل: التائب من الذنوب كلها، وبهذه المعاني يتبين سقوط قول القائل: إن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة; لأنها متماثلة في حق الشهوة، وفي حق التعرض لسخط الله تعالى، نعم يجوز أن يتوب عن الخمر دون النبيذ; لتفاوتهما في اقتضاء السخط) ، وعدم تماثلهما، (ويتوب عن الكثير دون القليل; لأن لكثرة الذنوب تأثيرا في كثرة العقوبة بالشهوة) ، وفي نسخة: فيساعد الشهوة (بالقدر الذي يعجز عنه، ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب) تناول (الفاكهة، فإنه قد يتناول قليلها، ولكن لا يستكثر منها، فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء، ولا يتوب عن مثله، بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفا لما بقي، إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة، وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم، فيتصور اختلاف حاله في الترك، فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب) أصلا، (وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي; فإن قلت: هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه) أي: ارتكبه (قبل طريان العنة) قال في المصباح: رجل عنين لا يقدر على إتيان النساء، أو لا يشتهي النساء، وامرأة عنينة لا تشتهي الرجال، والفقهاء يقولون: به عنة، وفي كلام الجوهري ما يشبهه، ولم أجده لغيره، ولفظه عن عن امرأته تعنينا بالبناء للمفعول، إذا حكم القاضي عليه بذلك، أو منع منها بالسحر، والاسم العنة، وصرح بعضهم بأنه لا يقال به عنة، كما تقوله الفقهاء، فإنه كلام ساقط، والمشهور في هذا المعنى كما قال ثعلب وغيره: رجل عنين بين التعنين والعنينة، وقال في البارع بين العنانة بالفتح، قال الأزهري: سمي عنينا; لأن ذكره يعن لقبل المرأة عن يمين وشمال أي: يعرض إذا أراد إيلاجه، وسمي عنان اللجام من ذلك، والعنة بالضم حظيرة من خشب تعمل للإبل والخيل، هذا ما وجدته، فقول الفقهاء: لو عن عن امرأة، وزنى بأخرى مخرج على المعنى الثاني دون الأول، أي لو لم يشته امرأة واشتهى غيرها، (فأقول لا) تصح توبته; لأن التوبة كما تقدم (عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك) أي: ترك الذنب (فيما [ ص: 588 ] يقدر على فعله) إن كان مقدرا عليه، (وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه، لا بتركه إياه، ولكن أقول: إذا طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه، وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو) فرضنا إن (كانت شهوة الوقاع) أي: الجماع (به باقية، لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة، وتغلبها، وتحثه) على تركها، (فإني أرجو أن يكون ذلك مكفرا لذنبه) الماضي، (وماحيا عنه سيئته) التي سلفت، وهذا اختيار المصنف رحمه الله تعالى; (إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة) عليه، (ومات عقب التوبة كان من التائبين) ، وهو ظاهر، (وإن لم تطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة، وتتيسر أسباب قضاء الشهوة، ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغا أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده، فإذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ، إلا أنه لا يعرفه من نفسه، فإن كل من لا يشتهي شيئا يقدر نفسه قادرا على تركه بأدنى خوف، والله مطلع على ضميره، وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه، بل الظاهر أنه يقبله) منه، (والحقيقة في هذا كله ترجع إلى أن ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين: أحدهما حرقة الندم، والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل) أي: فيما سيأتي من الزمان، (وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة، ولكن ليس محالا أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة، ولولا هذا لقلنا: إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة، وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلا; فإن قلت: إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب) أي: ترك الذنب، وانكمش في الاستبدال فلم تكن نفسه تنازعه، ولا تطالبه في الذنب، (والآخر في نفسه نزوع إليه) أي: ترك ذنبا، وعمل في الاستقامة، ونفسه تنازعه إليه، (وهو ينازعها ويمنعها، فأيهما أفضل، فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه; فقال) الشاميون منهم أبو الحسن (أحمد بن أبي الحواري) الدمشقي من كبار المشايخ صحب أبا سليمان الداراني، وكان الجنيد يقول هو ريحانة الشام، مات سنة ثلاث ومائتين، (وأصحاب أبي سليمان الداراني) رحمه الله (أن المجاهد أفضل; لأن له مع التوبة فضل الجهاد) أي: الذي تنازعه نفسه إلى الذنب وهو يجاهدها أفضل; لأنه غلب منازعتها، وله فضل مجاهدتها، (وقال علماء البصرة: ذلك الآخر) أي: الذي سكنت نفسه عن المنازعة بشاهد من شواهد اليقين والطمأنينة (أفضل) ، ومال إلى ذلك رباح بن عمرو القيسي، وهو من كبار علماء البصريين قال: (لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة) أي: فلا يؤمن عليه الرجوع، وقد نقل صاحب القوت القولين، وكأنه مال إلى قول البصريين .




الخدمات العلمية