الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وما ذم طعاما قط ، لكن إن أعجبه أكله ، وإن كرهه تركه وإن عافه لم يبغضه إلى غيره وكان يعاف الضب والطحال ولا يحرمهما وكان يلعق بأصابعه الصحفة ويقول : آخر الطعام أكثر بركة وكان يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر وكان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ، ويقول إنه : لا يدري في أي الطعام البركة .

التالي السابق


(وما ذم) صلى الله عليه وسلم (طعاما قط ، لكن إن أعجبه أكله، وإن كرهه تركه) ، وهذا قد تقدم بلفظ: ما عاب، والذم والعيب مترادفان، (وإن عافه لم يبغضه إلى غيره) ، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر في قصة الضب، فقال: كلوا فإنه ليس بحرام، ولا بأس به ولكنه ليس من طعام قومي.

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يعاف الضب والطحال ولا يحرمهما) أما الضب ففي الصحيحين من حديث ابن عباس : "لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" ، ولهما من حديث ابن عمر " لست بآكله، ولا محرمه"، وأما الطحال فروى ابن ماجه من حديث ابن عمر : " أحلت لنا ميتتان ودمان" ، وفيه : "وأما الدمان فالكبد والطحال"، وللبيهقي موقوفا على زيد بن ثابت، " إني لا آكل الطحال، وما بي إليه حاجة، إلا ليعلم أهلي أنه لا بأس به" اهـ .

قلت: وروى ابن صصري في أماليه، "كان لا يأكل الجراد ولا الكلوتين، ولا الضب، من غير أن يحرمهما .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يلعق الصحفة) التي فيها الطعام، (ويقول: آخر الطعام أكثر بركة) .

قال العراقي : روى البيهقي في الشعب من حديث جابر في حديث قال فيه: "ولا يرفع القصعة حتى يلعقها، أو يعلقها، فإن آخر الطعام فيه البركة" ، ولمسلم من حديث أنس :أمرنا أن نسلت الصحفة، قال: إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يبارك له فيه اهـ.

قلت: وفي بعض روايات مسلم من حديث جابر : "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"، وأما حديث جابر الذي رواه البيهقي فقد رواه أيضا ابن حبان بلفظ: "ولا ترفع الصحفة حتى تلعقها; فإن في آخر الطعام البركة"، وروى أحمد والترمذي وابن ماجه، والبغوي، والدارمي وابن أبي خيثمة وابن السكن وابن [ ص: 123 ] شاهين وابن قانع، و الدارقطني من حديث قبيشة الخير الهذلي مرفوعا: "من أكل في قصعة ولحسها استغفرت له"، قال الترمذي، و الدارقطني : غريب ، وأورده بعضهم تستغفر القصعة للاحسها .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر) قال العراقي : رواه مسلم من حديث كعب بن مالك ، دون قوله: حتى تحمر ، فلم أقف على أصل اهـ .

قلت: والمعنى يبالغ في لعقها ، وكأنه أخذ ذلك من رواية الترمذي في الشمائل "كان يلعق أصابعه ثلاثا" ، أي يلعق كل أصبع ثلاث مرات .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ، ويقول: لا يدري في أي الأصابع البركة) ، قال العراقي : روى مسلم من حديث كعب بن مالك ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها"، وله من حديث جابر ، فإذا فرغ فليلعق أصابعه ،فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة ، وللبيهقي في الشعب من حديثه: "لا يمسح أحدكم يده بالمنديل حتى يلعق يده; فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارك له" اهـ .

قلت: روي في هذا عن ابن عباس، وجابر ، وأبي هريرة ، وزيد بن ثابت ، وأنس، فلفظ حديث ابن عباس : "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها"، رواه كذلك أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وحديث جابر مثله بزيادة "فإنه لا يدري في أي من طعامه البركة"، رواه كذلك أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأما حديث أبي هريرة فلفظه: "إذا أكل أحدكم طعاما فليلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة"، رواه كذلك أحمد ، ومسلم ، والترمذي .

ورواه كذلك الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت ، ورواه كذلك الطبراني في الأوسط عن أنس قال ابن حجر في شرح الشمائل: "الأكل أن يلعق كل أصبع ثلاثا متوالية لاستقلال كل ، فناسب كمال تنظيفها قبل الانتقال إلى البقية فيبدأ بالوسطى لكونها أكثر تلويثا إذ هي أطول ، فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها ، ولأنها لطولها أول ما ينزل الطعام ، ثم بالسبابة ، ثم بالإبهام"، لما روى الطبراني في الأوسط "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ، ثم التي تليها ، ثم الإبهام ، وعند مسلم : "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها ، وليمط ما كان بها من أذى، ولا يدعها للشيطان ، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه; لأنه لا يدري في أي طعامه البركة"، وفي هذه الأخبار الرد على من كره اللعق استقذارا، ومن ثم قال الخطابي "عاب قوم أفسد عقولهم الترفه لعق الأصابع ، وزعموا أنه مستقبح ، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي لعق بالأصابع والصحفة جزء مما أكلوه ، فإذا لم يستقذر كله فلا يستقذر بعضه ، وليس فيه أكثر من مصها بباطن الشفة ، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك ، وقد يدخل الإنسان أصبعه في فيه ، فيدلكه ، ولم يستقذر ذلك أحد اهـ .

ملخصا ويؤيده أن الاستقذار إنما يتوهم في اللعق أثناء الأكل; لأنه يعيدها في الطعام ، وعليها آثار ريقه ، وهذا غير سنة .

واعلم أن الكلام فيمن استقذر ذلك من حيث هو لا مع نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا خشي عليه الكفر; إذ من استقذر شيئا من أحواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع علمه بنسبته إليه كفر ، ثم قوله: أو يلعقها غيره ، أي ممن لا يتقذره من نحو ولد وخادم ، وزوجة يحبونه ، ويتلذذون بذلك منه ، فإن في ذلك بركة .




الخدمات العلمية