بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس .
اعلم أن لأن القلب أيضا خارج عن إدراك الحس ، وما ليس مدركا بالحواس تضعف الأفهام عن دركه إلا بمثال محسوس ونحن نقرب ذلك إلى الأفهام الضعيفة بمثالين: أحدهما أنه : لو فرضنا حوضا محفورا في الأرض احتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم وقد يكون أغزر وأكثر فذلك ، القلب مثل الحوض ، والعلم مثل الماء وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علما ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله . عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس
فإن قلت فكيف يتفجر : العلم من ذات القلب وهو خال عنه فاعلم أن هذا من عجائب أسرار القلب ، ولا يسمح بذكره في علم المعاملة بل القدر الذي يمكن ذكره أن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة ، فكذلك فاطر السماوات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة ، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال ، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها ولو انعدمت السماء والأرض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما ، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال والحاصل ، في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال ، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا من خيال الإنسان وقلبه ، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ .
فكأن ، للعالم أربع درجات في الوجود : وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني ، ويتبعه وجوده الحقيقي ، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي ، أعني وجود صورته في الخيال ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي أعني وجود صورته في القلب .
وبعض هذه الموجودات روحانية وبعضها جسمانية والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض وهذا اللطف من الحكمة الإلهية ؛ إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسماوات والأرض على اتساع أكنافها فيها ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال ، ثم منه وجود في القلب فإنك أبدا لا تدرك إلا ما هو واصل إليك ، فلو لم يجعل للعالم كله مثالا في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك ، فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ، ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار ، حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها .
ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول : القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس ، وتارة من اللوح المحفوظ كما أن العين يتصور أن يحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها ، وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمس ويحكي صورتها ، فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس ، فيكون ذلك كتفجر الماء من عمق الأرض ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجابا له عن مطالعة اللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار ، منع ذلك من التفجر في الأرض وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظرا إلى نفس الشمس فإذن للقلب بابان : باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة ، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة ، وعالم الشهادة والملك أيضا يحاكي عالم الملكوت نوعا من المحاكاة .