إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون ، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمرا في شيء دون شيء ، والفرق بين الحمق والجنون أن الأحمق مقصوده صحيح ، ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض ، وأما المجنون فإنه يحتار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسدا .
وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة .
وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والبذخ .
والاستشاطة والتكبر والعجب وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19513_19950خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك .
فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ، والباقي فروعها .
ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه ، فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكا مطاعا يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد ، فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد فينبغي أن يبعد كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدي به ويتقرب إليه فإن ، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق ، كما قال - - وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين ، وهو ثمرة العقل ، ومنتهى الحكمة ، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة .
والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29أشداء على الكفار رحماء بينهم إشارة إلى أن للشدة موضعا وللرحمة موضعا فليس ، الكمال في الشدة بكل حال ، ولا في الرحمة بكل حال فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه ، وبيان أركانه وثمراته وفروعه .
إِذْ مِنِ اعْتِدَالِ قُوَّةِ الْعَقْلِ يَحْصُلُ حُسْنُ التَّدْبِيرِ وَجَوْدَةُ الذِّهْنِ وَثَقَّابَةُ الرَّأْيِ وَإِصَابَةُ الظَّنِّ وَالتَّفَطُّنُ لِدَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَا آفَاتِ النُّفُوسِ وَمِنْ إِفْرَاطِهَا تَصْدُرُ الْجَرْبَزَةُ وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ وَالدَّهَاءُ وَمِنْ تَفْرِيطِهَا يَصْدُرُ الْبَلَهُ وَالْغِمَارَةُ وَالْحُمْقُ وَالْجُنُونُ ، وَأَعْنِي بِالْغِمَارَةِ قِلَّةَ التَّجْرِبَةِ فِي الْأُمُورِ مَعَ سَلَامَةِ التَّخَيُّلِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ غُمْرًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُمْقِ وَالْجُنُونِ أَنَّ الْأَحْمَقَ مَقْصُودُهُ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّ سُلُوكَهُ الطَّرِيقَ فَاسِدٌ فَلَا تَكُونُ لَهُ رَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْغَرَضِ ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ يَحْتَارُ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ فَيَكُونُ أَصْلُ اخْتِيَارِهِ وَإِيثَارِهِ فَاسِدًا .
وَأَمَّا خُلُقُ الشَّجَاعَةِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْكَرَمُ وَالنَّجْدَةُ وَالشَّهَامَةُ وَكَسْرُ النَّفْسِ وَالِاحْتِمَالُ وَالْحِلْمُ وَالثَّبَاتُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَدُّد وَأَمْثَالُهَا وَهِيَ أَخْلَاقٌ مَحْمُودَةٌ .
وَأَمَّا إِفْرَاطُهَا وَهُوَ التَّهَوُّرُ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الصَّلَفُ وَالْبَذَخُ .
وَالِاسْتِشَاطَةِ وَالتَّكَبُّرُ وَالْعُجْبُ وَأَمَّا تَفْرِيطُهَا فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْمَهَانَةُ وَالذِّلَّةُ وَالْجَزَعُ وَالْخَسَاسَةُ وَصِغَرُ النَّفْسِ وَالِانْقِبَاضُ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19513_19950خُلُقُ الْعِفَّةِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ السَّخَاءُ وَالْحَيَاءُ وَالصَّبْرُ وَالْمُسَامَحَةُ وَالْقَنَاعَةُ وَالْوَرَعُ وَاللَّطَافَةُ وَالْمُسَاعَدَةُ وَالظُّرْفُ وَقِلَّةُ الطَّمَعِ وَأَمَّا مَيْلُهَا إِلَى الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ فَيَحْصُلُ مِنْهُ الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَالْوَقَاحَةُ وَالْخُبْثُ وَالتَّبْذِيرُ وَالتَّقْتِيرُ وَالرِّيَاءُ وَالْهُتْكَةُ وَالْمَجَانَةُ وَالْعَبَثُ وَالْمَلْقُ وَالْحَسَدُ وَالشَّمَاتَةُ وَالتَّذَلُّلُ لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتِحْقَارُ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
فَأُمَّهَاتُ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الْأَرْبَعَةُ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْعِفَّةُ وَالْعَدْلُ ، وَالْبَاقِي فُرُوعُهَا .
وَلَمْ يَبْلُغْ كَمَالَ الِاعْتِدَالِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ بَعْدَهُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْهُ ، فَكُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ قُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ كَمَالَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَلْقِ مَلِكًا مُطَاعًا يَرْجِعُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ إِلَيْهِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَمَنِ انْفَكَّ عَنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا وَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ ، فَإِنَّهُ قَدْ قَرُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ اللَّعِينِ الْمُبْعَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعُدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَلَكِ الْمُقَرَّبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ وَيَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ فَإِنَّ ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، كَمَا قَالَ - - وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فِي أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ هُوَ قُوَّةُ الْيَقِينِ ، وَهُوَ ثَمَرَةُ الْعَقْلِ ، وَمُنْتَهَى الْحِكْمَةِ ، وَالْمُجَاهَدَةُ بِالْمَالِ هُوَ السَّخَاءُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى ضَبْطِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ .
وَالْمُجَاهَدَةُ بِالنَّفْسِ هِيَ الشَّجَاعَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّةِ الْغَضَبِ عَلَى شَرْطِ الْعَقْلِ وَحَدِّ الِاعْتِدَالِ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّحَابَةَ فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لِلشِّدَّةِ مَوْضِعًا وَلِلرَّحْمَةِ مَوْضِعًا فَلَيْسَ ، الْكَمَالُ فِي الشِّدَّةِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا فِي الرَّحْمَةِ بِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى الْخُلُقِ وَحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ ، وَبَيَانِ أَرْكَانِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَفُرُوعِهِ .