بيان على الجملة . السبب الذي به ينال حسن الخلق
قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة ، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضا ، وهذا الاعتدال يحصل على وجهين أحدهما بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة والغضب ، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع ، فيصير عالما بغير تعليم ومؤدبا بغير تأديب ، كعيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريا عليهما السلام وكذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ولا يبعد أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب ، فرب صبي خلق صادق اللهجة سخيا جريا وربما يخلق بخلافه فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق ، وربما يحصل بالتعلم .
والوجه الثاني اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة : والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد ، وهو بذل المال فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفا مجاهدا نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعا له ، ويتيسر عليه فيصير به جوادا وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر ، فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة ، وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقا له وطبعا فيتيسر عليه .
وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذا فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة ، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ، ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة ، وما لم تترك جميع الأفعال السيئة ، وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ، ويتنعم بها ، ويكره الأفعال القبيحة ، ويتألم بها كما قال صلى الله عليه وسلم -: وجعلت قرة عيني في الصلاة ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال ، فهو النقصان ، ولا ينال كمال السعادة به نعم المواظبة عليها بالمجاهدة خير ، ولكن بالإضافة إلى تركها لا بالإضافة إلى فعلها عن طوع ولذلك قال الله تعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقال صلى الله عليه وسلم - : اعبد الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير ثم لا يكن في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان ، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر ، وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل ولذلك لما سئل - صلى الله عليه وسلم عن السعادة فقال : طول العمر في طاعة الله تعالى ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت ؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل والنفس أزكى وأطهر والأخلاق أقوى وأرسخ وإنما مقصود العبادات تأثيرها في القلب ، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل ، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى ، وذلك بأن يكون موزونا بميزان الشرع والعقل ، ثم يكون بعد ذلك فرحا به مستلذا له ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك ، فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بيته وتركه مفلسا ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائما على رجليه وهو لا يحس بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء بل نرى الفاجر العيار يفتخر بما يلقاه من الضرب والقطع والصبر على السياط وعلى أن يتقدم به للصلب وهو مع ذلك متبجح بنفسه وبقوته بالصبر على ذلك حتى يرى ذلك فخرا لنفسه ويقطع الواحد منهم إربا إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر ، على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحا بما يعتقده كمالا وشجاعة ورجولية ، فقد صارت أحواله مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره بل لا حالة أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكماله في تخنثه يتباهى به مع المخنثين حتى يجري بين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجري بين الملوك والعلماء فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ، ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف ، فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه ، بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب ، فإنه أمر رباني وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته ، وعارض على طبعه وإنما ، ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معينا له على حب الله تعالى وعلى دينه ، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض . غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل
فإذن قد عرفت بهذا قطعا أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعا انتهاء وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح ، أعني النفس والبدن ، فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب والأمر فيه دور ويعرف ذلك بمثال ، وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية حتى يصير كاتبا بالطبع ، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ، ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي ، الخط الحسن ، فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفا ، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعا ، كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفا فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسنا ، ولكن الأول بتكلف ، إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة ، فصار يكتب الخط الحسن بالطبع .
وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس وكذلك ، من أراد أن يصير سخيا عفيف النفس حليما متواضعا فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفا حتى يصير ذلك طبعا له فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طالب فقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة ، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة ، لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم ، وهو معنى قولنا إن : الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ، ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها ، ثم تتداعى قليلا قليلا حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأسا فيفوتها فضيلة الفقه وكذلك ، صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئا فشيئا على التدريج مثل نمو البدن وارتفاع القامة فكذلك الطاعة الواحدة لا يحس تأثيرها في تزكية النفس وتطهيرها في الحال ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة ، فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة ، وإنما اجتمعت الجملة من الآحاد فلكل واحد منها تأثير فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي فله ثواب لا محالة فإن ؛ الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية ، وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة ، وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوما فيوما إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه ، فكذا من يستهين بصغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي ، إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة ؛ إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيدا بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى : وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا الآية ولذلك قال رضي الله تعالى عنه : إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ، ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض ، فإذا استكمل العبد الإيمان ابيض القلب كله ، وإن النفاق ليبدو في القلب نكتة سوداء كلما ، ازداد النفاق ازداد ذلك السواد ، فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله فإذا عرفت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاثة حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما فهو في غاية الفضيلة ومن كان رذلا بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .