وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر ، فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات . وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة ، وتمرين النفس عليها ، ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة ، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة حتى روي أن وهب بن منبه قال التقى ملكان في السماء الرابعة ، فقال أحدهما للآخر : من أين قال أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله وقال الآخر : أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد فهذا تنبيه على أن ولهذا امتنع تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل ، وقال : اعزلوا عني حسابها فلا عبادة لله تعالى أعظم من عمر كما أوردناه في كتاب رياضة النفس ، وقد روى مخالفة النفس في الشهوات بالشهوات وترك اللذات نافع أن رضي الله عنهما كان مريضا فاشتهى سمكة طرية ، فالتمست له ابن عمر بالمدينة ، فلم توجد ثم وجدت بعد كذا وكذا فاشتريت له بدرهم ونصف ، فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب ، فقال للغلام لفها برغيفها وادفعها إليه فقال له الغلام : أصلحك الله ، قد اشتهيتها منذ كذا وكذا ، فلم نجدها ، فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف فنحن ، نعطيه ثمنها . فقال : لفها وادفعها إليه . ثم قال الغلام للسائل هل لك أن تأخذ درهما وتتركها ؟ قال نعم ، فأعطاه درهما وأخذها وأتى بها ، فوضعها بين يديه ، وقال : قد أعطيته درهما وأخذتها منه . فقال : لفها وادفعها إليه ، ولا تأخذ منه الدرهم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سددت كلب الجوع برغيف ، وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا وبلغ رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال ، عمر لمولى له : إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ، فأعلمني ، فأعلمه ، فدخل عليه ، فقرب عشاؤه ، فأتوه بثريد لحم ، فأكل معه عمر ، ثم قرب الشواء وبسط عمر يزيد يده ، وكف يده ، وقال : الله الله ، يا عمر يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام ، والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم وعن يسار بن عمير قال : ما نخلت دقيقا قط إلا وأنا له عاص وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ، ثم يأكله ، ويقول : كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب ، وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره . لعمر
فتقول مولاة له : يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء . فيقول لها : يا أم فلان ، قد شردت عني كلب الجوع .
قال شقيق بن إبراهيم لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم يبكي وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: أيش هذا البكاء يا أبا إسحاق؟ فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثا، فقال: يا شقيق استر علي، فقلت: يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجا فمنعتها جهدي حتى إذا كان البارحة كنت جالسا وقد غلبني النعاس، إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه، فقربه، وقال: يا إبراهيم، كل، فقلت: ما آكل، قد تركته لله عز وجل فقال لي: قد أطعمك الله، كل. فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل، رحمك الله! فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل، عافاك الله! فإنما أعطيته فقيل لي: يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم؛ فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها، اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطي فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئا، وقال: يا خضر، لقمه أنت. فلم يزل يلقمني حتى نعست، فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت: أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفي قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالا؟ ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك، وإن لم يستحق ذلك! قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت .