ولما كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة كان الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال ؛ لتنكسر نفسه والمقصود أن تنكسر حتى تعتدل ، فترد بعد ذلك الغذاء أيضا إلى الاعتدال ، وإنما يمتنع من ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة إما صديق وإما مغرور أحمق . الأصلح لها الجوع
أما الصديق المستقيم فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم ، واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق وأما المغرور فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيرا ، وهذا غرور عظيم وهو الأغلب فإن النفس قلما تتأدب تأدبا كاملا ، وكثيرا ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه ، كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه ، فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك ، والذي يدل على أن ليس مقصودا في نفسه ، وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق ، غير بالغة رتبة الكمال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه . تقدير الطعام بمقدار يسير في وقت مخصوص ونوع مخصوص
قالت رضي الله عنها عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول : هل عندكم من شيء ؟ فإن قالوا : نعم ؛ أكل ، وإن قالوا : لا ؛ قال : إني إذن صائم .
وكان يقدم إليه الشيء فيقول : أما إني كنت أردت الصوم . ثم يأكل وخرج صلى الله عليه وسلم يوما وقال : إني صائم . فقالت له يا رسول الله : قد أهدي إلينا حيس فقال : كنت أردت الصوم ، ولكن قربيه . عائشة
ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له : كيف كنت في بدايتك ؟ فأخبر بضروب من الرياضات منها أنه كان يقتات ورق النبق مدة ، ومنها أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين ، ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له : فكيف أنت في وقتك هذا فقال ؟ : آكل بلا حد ولا توقيت وليس المراد بقوله : بلا حد ولا توقيت أني آكل كثيرا ، بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله ، وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل ، فقيل له : إن أخاك بشرا لا يأكل مثل هذا . فقال : إن أخي بشرا قبضه الورع ، وأنا بسطتني المعرفة . ثم قال : إنما أنا ضيف في دار مولاي ، فإذا أطعمني أكلت ، وإذا جوعني صبرت مالي والاعتراض ، والتمييز ودفع إلى بعض إخوانه دراهم وقال : خذ لنا بهذه الدراهم زبدا وعسلا وخبزا حواريا . فقيل : يا إبراهيم بن أدهم أبا إسحاق بهذا ، كله ؟! قال : ويحك ! إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال وأصلح ذات يوم طعاما كثيرا ، ودعا إليه نفرا يسيرا ، فيهم الأوزاعي والثوري ، فقال له : يا الثوري أبا إسحاق ، أما تخاف أن يكون هذا إسرافا ؟ فقال : ليس في الطعام إسراف ، إنما الإسراف في اللباس والأثاث .
فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليدا يرى هذا من ، ويسمع عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس ، فما فعل فيراه متناقضا فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ، ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاط أو غبي مغرور فيقول المحتاط : ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس نفسي أطوع من نفس مالك بن دينار سري السقطي وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات ، فيقتدى بهم ، والمغرور يقول : ما نفسي بأعصى علي من نفس ومالك بن دينار ، معروف الكرخي فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي فأنا أيضا ، ضيف في دار مولاي فمالي ، وللاعتراض ؟ ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة ، قامت القيامة عليه ، واشتغل بالاعتراض وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى بل رفع التقدير في الطعام والصيام ، وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة ، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة ، بالكلية حتى يكون أكله إذا أكل على نية ، كما يكون إمساكه بنية فيكون عاملا لله في أكله وإفطاره . وإبراهيم بن أدهم
فينبغي رضي الله عنه ، فإنه كان يرى رسول الله عمر صلى الله عليه وسلم يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه ، بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول : أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها ، اعزلوا عني حسابها . وتركها . أن يتعلم الحزم من