الباب الخامس في أهل المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوله بقباء وتأسيس مسجد قباء تلقي
روى عن البخاري عائشة ، وابن سعد عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن جماعة من الصحابة أن المسلمين بالمدينة لما سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفوا قدومه كانوا يخرجون إذا صلوا الصبح إلى ظاهر الحرة ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال ، ويؤذيهم حر الظهيرة . فإذا لم يجدوا ظلا دخلوا ، وذلك في أيام حارة حتى كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت فأوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين ، يلوح بهم السراب ، فلم يملك اليهودي نفسه فصرخ بأعلى صوته : «يا بني قيلة» ، وفي لفظ : يا معشر العرب ، «هذا جدكم» ، وفي لفظ : هذا صاحبكم الذي تنتظرون ، «قد جاء» . فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة وذلك يوم الاثنين لشهر ربيع الأول ، فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه في مثل سنه . وقام أبو بكر للناس ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبو بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبا بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك . أبو بكر
وفي رواية : «فلما رأوا ينحاز له عن الظل عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل بهم علو أبا بكر المدينة بقباء في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة ، قيل : «وكان يومئذ مشركا ، وبه جزم محمد بن الحسن بن زبالة» ، وقيل : «إنما نزل على سعد بن خيثمة» . قال رزين : «والأول أصح» وقال إنه الأرجح ، [قال] : «وقد قاله الحاكم وهو أعرف بذلك من غيره» وقال ابن شهاب الدمياطي :
«إنه أثبت» . وقال بعضهم «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل على كلثوم بن الهدم وكان يخرج للناس من منزله فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة لأنه كان عزبا لا أهل له هناك وكان منزل العزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين فمن هنالك يقال : نزل على سعد بن خيثمة .
ونزل على أبو بكر خبيب بن إساف أحد بني الحارث بالسنح- بسين مهملة مضمومة فنون ساكنة فحاء مهملة . ويقال : على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج» . [ ص: 267 ]
وروى عن الزبير بن بكار عبد الله بن حارثة قال : «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم ، فصاح كلثوم بغلام له فقال : يا نجيح . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنجحت يا أبا بكر»
وأقام رضي الله عنه علي بن أبي طالب بمكة بعد مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما- قال بعضهم : ثلاثة- حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه ليردها ، ثم خرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء فنزل على كلثوم بن الهدم .
وقال علي فيما رواه ابن إسحاق ورزين : «كنت نزلت بقباء وكانت امرأة مسلمة لا زوج لها ، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها ، فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه فاستربت شأنه ، فقلت لها : يا أمة الله ، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو ، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت : هذا قد عرف أني امرأة لا أحد لي ، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها . فقال : احتطبي بها ، فكان علي يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف ، حين هلك عنده سهل بن حنيف بالعراق .
وكان لكلثوم بن الهدم مربد ، والمربد الموضع الذي يبسط فيه التمر ليجف ، فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا . وفي الصحيح عن «فلبث في بني عمرو بن عوف وأسس المسجد الذي أسس على التقوى» . وفي رواية عروة : عنه قال : «الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى» هم بنو عمرو بن عوف وكذا عند عبد الرزاق ابن عائذ ولفظه : «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى» .
وروى في زيادات المغازي عن يونس بن بكير المسعودي عن بضم العين المهملة وفتح الفوقية وسكون التحتية وبالموحدة- قال : الحكم بن عتيبة- «ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه» . فجمع حجارة فبنى مسجد قباء فهو عمار بن ياسر : أول من بنى مسجدا- روى الحافظ والسيد- يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال بالمدينة ، وهو في التحقيق أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا ، وإن كان قد بني غيره من المساجد ، فقد روى عن ابن أبي شيبة رضي الله عنه قال : لقد لبثنا جابر بالمدينة قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة ، ولذا قيل : كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه ، يعني هذا المسجد ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس ، ولم يحدث فيه شيئا أي في أول الأمر لأن ابن شبة- بالشين المعجمة [ ص: 268 ]
والموحدة المشددة المفتوحتين- روى ذلك ، ثم
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء ، وقدم القبلة إلى موضعها اليوم وقال : «جبريل يؤم بي البيت» .
وروى عن الطبراني رضي الله عنه قال : جابر بن سمرة أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليقم بعضكم فيركب الناقة ، فقام رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «ليقم بعضكم فيركب الناقة» ، فقام عمر رضي الله عنه ، فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرخ زمامها وابنوا على مدارها فإنها مأمورة» . علي لما سأل
وروى بسند رجاله ثقات عن الطبراني الشموس- بفتح الشين المعجمة- بنت النعمان رضي الله عنها قالت : «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد : مسجد قباء ، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أعطني أكفك ، فيقول : «لا خذ مثله» ، حتى أسسه ، ويقول : «إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة» قالت : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة .
قال السيد : «قد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك وجاء نقباؤهم في صلاة الصبح فأخبرهم وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ، فيحتمل أن جبريل عليه السلام كان يؤم [به] البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ويعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة . أو أنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة ، كما قاله الربيع ، فأم به جبريل البيت لذلك ، لاستمالة اليهود أو أن واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا ثم نسخ بالكعبة كما قاله القاضي استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس وغيره من أن القبلة نسخت مرتين ، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول . ويدل على هذا ما قدمناه من رواية أبو بكر بن العربي ابن شبة» .
وروى ابن شبة أيضا أن كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء : «أفلح من يعمر المساجدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المساجدا» ، فقال عبد الله بن رواحة عبد الله : «ويقرأ القرآن قائما وقاعدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وقاعدا» فقال عبد الله : «ولا يبيت الليل عنه راقدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «راقدا» . [ ص: 269 ]