الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : دل حديث ابن مسعود على أن نزول هذه الآية كان بالمدينة ، وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فنزلت : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . قالوا : "أوتينا علما كثيرا . أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" . فأنزل الله عز وجل : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف 109] سند رجاله رجال صحيح مسلم ، ورواه ابن إسحاق من وجه آخر نحوه ، وسبق في باب امتحان المشركين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لا يعرفها إلا نبي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

                                                                                                                                                                                                                              فلما هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ قال : "لا بل [ ص: 386 ] عنيتكم" . فقالوا : "إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء" . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :

                                                                                                                                                                                                                              "هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم" ،

                                                                                                                                                                                                                              وأنزل الله عز وجل : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير .
                                                                                                                                                                                                                              [لقمان 27 ، 28] ودل حديث ابن مسعود ، وأثر عطاء أن الآية نزلت بمكة ، وجمع بينهما وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بتعدد النزول ، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ ذلك ، وإلا فما في الصحيح أصح . وقال الشيخ رحمه الله تعالى في "الإتقان" : "إذا استوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات" ، ثم ذكر [مثالا له] حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس المذكورين . ثم قال :

                                                                                                                                                                                                                              "فهذا- أي حديث ابن عباس- يقتضي أن الآية نزلت بمكة ، والحديث الأول خلافه" . وقد رجح أن ما رواه البخاري أصح من غيره ، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال أبو نعيم : "قيل : من علامات نبوة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في الكتب المنزلة أنه إذا سئل عن الروح فوض العلم بحقيقتها إلى منشئها وبارئها ، وأمسك عما خاضت فيه الفلاسفة وأهل المنطق القائلون بالحدس والتخمين ، فامتحنه اليهود بالسؤال عنها ليقفوا منه على نعته المثبت عندهم في كتابهم ، فوافق كتابه ما ثبت في كتبهم" .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال ابن التين : "اختلف في الروح المسؤول عنها في هذا الخبر على أقوال :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : روح الإنسان ، الثاني : روح الحيوان . الثالث : جبريل . الرابع : عيسى . الخامس : القرآن .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : الوحي . السابع : ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة . الثامن : ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى [بتلك اللغات كلها] ويخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة ، وقيل : ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش . التاسع : خلق كخلق بني آدم يأكلون ويشربون ، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه ملك منهم . وقيل : هو صنف من الملائكة يأكلون ويشربون" . قال الحافظ : "وهذا إنما يجمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ "الروح" الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية ، فمن الذي في القرآن : 1 نزل به الروح الأمين [الشعراء 193] ، 2 وكذلك أوحينا- إليك روحا من أمرنا [الشورى 52] ، 3 يلقي الروح من أمره [غافر : 15] ، 4 وأيدهم بروح منه [المجادلة 22] ، 5 يوم يقوم الروح والملائكة صفا [النبأ 38] ، 6 ينزل الملائكة بالروح من أمره [النحل 2] ؟ فالأول : جبريل ، والثاني : القرآن ، والثالث : الوحي ، والرابع : القوة ، والخامس والسادس : محتمل لجبريل أو غيره ، ووقع إطلاق الروح على عيسى . [ ص: 387 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس قال : "الروح من الله ، وخلق من خلق الله ، وصور كبني آدم ، لا ينزل ملك إلا ومعه أحد من الروح" . وقال الخطابي : "حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا ، وقال الأكثرون : سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد . وقال أهل النظر : "سألوه عن مسلك الروح وامتزاجها بالجسد ، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه . وقال القرطبي : "الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان : لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله ، ولا نجهل أن جبريل ملك ، وأن الملائكة أرواح" . وقال الإمام فخر الدين :

                                                                                                                                                                                                                              "المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة ، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه ، وبيانه : أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيتها ، وهل هي متحيزة أم لا ، وهل هي حالة في متحيز أم لا ، وهل هي قديمة أو حادثة ، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى ، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من تعلقاتها" ؟ قال : "وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني ، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية ، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها ، فهي جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث ، وهو قوله تعالى : "كن فكان" . قال : هي موجودة محدثة بأمر الله عز وجل وتكوينه ، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد ، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيها .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : تنطع قوم "فتباينت أقوالهم في الروح ، فقيل : هي النفس الداخل الخارج ، وقيل الحياة ، وقيل : جسم لطيف يحل في جميع البدن ، وقيل : هي الدم ، وقيل : هي عرض ، حتى قيل : إن الأقوال بلغت المائة ، ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين إن لكل نبي خمس أرواح ، وأن لكل مؤمن ثلاثا ، ولكل حي واحدة .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال القاضي أبو بكر بن العربي : "اختلفوا في الروح والنفس ، فقيل متغايران وهو الحق ، وقيل : هما شيء واحد ، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس ، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس ، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء ، بل إلى الجهال مجازا .

                                                                                                                                                                                                                              قال تلميذه السهيلي : يعني على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي [الحجر : 29] ، وقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر ، ولولا التغاير لساغ ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية