الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 370 ] فصل ( من يبدأ بالسلام وتبليغه بالكتاب ، وحكم الجواب ) .

يسن أن يسلم الصغير على الكبير . والماشي على الجالس ، ويسلم الراكب عليهما ، لخبر أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك هو متفق عليه خلا ذكر الصغير على الكبير فإنه انفرد به البخاري . وذكر صاحب النظم ذلك كما ذكره الأصحاب ثم قال : وإن سلم المأمور بالرد منهم فقد حصل المسنون إذ هو مبتدئ ، وظاهر هذا صريحه أنه إذا بدأ بالسلام من قلنا يبدأ غيره أنه تحصل السنة بسلامه ويكون مبتدئا ، وهذا خلاف ظاهر كلامه السابق وكلام الأصحاب والأخبار . ويكون فهم من كلام الأصحاب والأخبار أن ذلك كمال السنة وأفضلها .

وهذا يقتضي أن غيره سنة مفضولة بالنسبة لاشتراكهما في الأمر بإفشاء السلام وامتياز أحدهما وهذا محتمل ، وقد قال في شرح مسلم عما جاء في الأخبار للاستحباب قال ولو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل قال : وقد يكون مراده أنه يأتي بالجواب بصيغة الابتداء كما تأتي المسألة . لكن فكيف يقول حصل المسنون وإنما حصل المفروض ؟ ويقول إذ هو مبتدئ إنما يكون مجيبا ، والله أعلم .

قال ابن هبيرة : إن سلم على رجل فقد أمنه ، فالفارس أقوى من الراجل فأمر عليه السلام بسلام الأقوى على الأضعف ، وسلام القليل على الكثير أقل حرجا ولو سلم الغائب عن العين من وراء جدار أو ستر : السلام عليك يا فلان أو سلم الغائب عن البلد برسالته أو كتابه وجبت الإجابة عند البلاغ عندنا وعند الشافعية لأن تحية الغائب كذلك .

ويستحب أن يسلم على الرسول قيل لأحمد إن فلانا يقرئك السلام قال عليك وعليه السلام وقال في موضع آخر ، وعليك وعليه السلام وقال وكذلك روي عن { النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل أبي يقرئك السلام قال : عليك وعلى أبيك السلام } [ ص: 371 ]

وقال الخلال : أخبرني يوسف بن أبي موسى قيل لأبي عبد الله إن فلانا يقرئك السلام قال سلم الله عليك وعليه . وهو معنى ما سبق عندنا ولهذا يجب رد السلام وقال ابن عبد البر قال رجل لأبي ذر فلان يقرئك السلام ، فقال هدية حسنة ومحمل خفيف .

قال الشافعية : ويستحب بعث السلام ويجب على الرسول تبليغه ، وهذا ينبغي أن يجب إذا تحمله لأنه مأمور بأداء الأمانة وإلا فلا يجب .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام فقالت : وعليه السلام ورحمة الله } . زاد البخاري في رواية : وبركاته زاد أحمد : جزاه الله خيرا من صاحب ودخيل فنعم الصاحب ونعم الدخيل .

فيه دليل على أنه لا يجب الرد على مبلغ السلام وهو الرسول . وفيه ترخيم المنادى ويجوز فتح آخره وهو الشين هنا وضعه . ومعنى " يقرأ عليك السلام " يسلم عليك قال في شرح مسلم وفيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة .

وعن أبي هريرة { قال أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال يا رسول الله هذه خديجة معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب } متفق عليه .

ولأحمد ومسلم " فاقرأ عليها السلام من ربها ومني " ، وليس في الحديث سوى هذا وكأنه اختصر إبلاغه لها ذلك وردها الجواب مع أني لم أجد من صرح بوجوب رد سلام الملك ووجوب الرد منه ، وليس رد سلام الله تعالى كرد سلام جبريل عليه السلام . ولهذا لما كانوا يقولون في الصلاة قبل الأمر بالتشهد : السلام على الله قبل عباده ، السلام على جبريل ، السلام على ميكائيل ، السلام على فلان وفلان ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله } الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه [ ص: 372 ] والدارقطني من حديث ابن مسعود فنهى عليه السلام عن السلام على الله لأن الله هو السلام ولم ينه عن السلام على غيره .

وأظن أن في غريب ما روي أن خديجة رضي الله عنها لما قيل لها قالت : الله السلام ومنه السلام ، وهذا كما في الخبر الصحيح المشهور أنه عليه السلام كان يقول : { اللهم أنت السلام ومنك السلام } .

وقال ابن الأثير في قرأ وفيه " أن الرب عز وجل يقرئك السلام " يقال أقرئ فلانا السلام واقرأ عليه السلام ، كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده . هذا لفظ النهاية في فصل القاف مع الراء وإذا قرأ الرجل القرآن أو الحديث على الشيخ يقول أقرأني فلان أي حملني على أن أقرأ عليه ، وقد تكرر في الحديث انتهى كلامه .

وعن ابن عباس قال : { أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي ما أحجك عليه ، فقالت : أحجني على جملك فلان قال : ذلك حبيس في سبيل الله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله ، وإنها سألتني الحج معك . فقالت : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ما عندي ما أحجك عليه . قالت : أحجني على جملك فلان . فقلت : ذلك حبيس في سبيل الله . فقال : أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله . وإنما أمرتني ما تعدل حجة معك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة يعني عمرة في رمضان } رواه أبو داود .

ويسلم من انصرف بحضرة أحد أو أتى أهله أو غيرهم أو دخل بيتا مسكونا له أو لغيره أو خرج منه أو لقي صبيا أو رجلا وإن لم يعرفه . وقد سبق بعض ذلك للأخبار في ذلك ، منها ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو { أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من [ ص: 373 ] عرفت ومن لم تعرف } .

وكان ابن عمر يدخل إلى السوق فلا يمر بأحد إلا سلم عليه . فقال له الطفيل بن أبي بن كعب ما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق ؟ فقال يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن إنما نغدو من أجل السلام ونسلم على من لقينا رواه مالك في الموطأ ، ويأتي بالقرب من نصف الكتاب قول ابن مسعود إن من التواضع أن تسلم على من لقيت .

ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا { والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } ولعل المراد من السلام على من عرفه ومن لم يعرف أنه يكثر منه ويفشيه ويشيعه ، لا أنه يسلم على كل من رآه ، فإن هذا في السوق ونحوه يستهجن عادة وعرفا . ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بمثل هذه المحافظة والمواظبة عليه لشاع وتواتر ونقله الجم الغفير خلفا عن سلف والله أعلم .

روى ابن ماجه عن عائشة مرفوعا { ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين } وقال الشاعر :

قد يمكث الناس دهرا ليس بينهم ود فيزرعه التسليم واللطف

وعن أنس قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك } رواه الترمذي وقال حسن غريب وقال ابن حمدان : إن سلم بالغ على بالغ وصبي رده البالغ ولم يكف رد الصبي ، وكذا في شرح الهداية لأبي المعالي بناء على أن فرض الكفاية لا يحصل به ، ويتوجه ، يخرج من الاكتفاء بأذانه وصلاته على الجنازة قال أبو المعالي : والسلام على الصبي لا يستحق جوابا لعدم أهليته للجواب والأمر به ، كذا قال ويتوجه أن يستحق الجواب ، ويرده الصبي لكنه لا يجب عليه ، وسبق كلامهم أنه يسلم عليه ، وكيف يشرع السلام على من [ ص: 374 ] لا يرده ؟ وكيف يجب رد سلام من ليس أهلا لرده ؟ ولعل مراد أبي المعالي لا يستحق جوابا على طريق الوجوب لأنه ليس من أهله .

وقد قال أبو المعالي : فإن سلم صبي على بالغين فوجهان في وجوب الرد مخرجان من صحة إسلامه وعلى هذا فالمراد من قولهم يسلم على الصبي أي المميز ، وإلا فلا يسلم على من لا عقل له ولا تمييز كالمجنون لأن إذا لم يشرع السلام على من لا يشرع منه الرد لعارض فهنا مثله وأولى ، ويتوجه على كلام أبي المعالي يشرع ويرد عليه المجنون وقد يلتزمه لأنه دعاء ، ومن سلم على جماعة في دخوله أعاده في خروجه ، وهو قول الشافعية ، وقطع به ابن عقيل ، وهو معنى كلام القاضي والشيخ عبد القادر وغيرهما وقد تقدم نص أحمد ، قال ابن عقيل والدخول آكد استحبابا .

وقد روى أبو داود عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا وإسناده جيد { إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه } وكلامه في الرعاية في هذه المسألة فيه نظر وحاصله أنه تقدم أنه لا يعيد السلام ثانيا وقيل : بلى ، ومن دخل بيتا خاليا سلم على نفسه وعلى الملائكة ورد هو السلام على نفسه ولم يذكر غيره ويعايا ، بهذه المسألة أن المسلم هو يرد السلام ويتوجه منه تخريج فيمن عطس وليس بحضرته أحد أنه يرد على نفسه كما يأتي ، وظاهر كلام بعضهم أنه إذا دخل بيتا مسكونا يسلم لا خاليا ، واختاره ابن العربي المالكي .

وروى سعيد بإسناد جيد عن نافع عن ابن عمر كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولم يرد ابن عمر السلام على نفسه وقال الشيخ وجيه الدين في شرح الهدية : إذا دخل بيتا خاليا أو مسجدا خاليا فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لقوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } .

كذا قال وقال ابن الجوزي في الآية أقوال قيل : بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم ، وقيل المساجد فسلموا على من فيها ، وقيل [ ص: 375 ] المعنى إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم وقال كقول الشيخ وجيه الدين من قال من المالكية والشافعية ، وذكر القرطبي في تفسير الآية عن ابن عباس وجابر وعطاء .

وإن دخل على جماعة فيهم علماء سلم على الكل ثم سلم على العلماء سلاما ثانيا ، ذكره ابن تميم وابن حمدان وظاهر كلام بعضهم خلافه ويتوجه كما ذكر القريب والصالح ونحوهما .

ويجوز تعريف السلام بالألف واللام ، وتنكيره على الأحياء والأموات نص عليه وقدمه في الرعاية وغيرها وقيل تنكيره أفضل وقال ابن البناء سلام التحية منكر وسلام الوداع معرف وقال ابن عقيل سلام الأحياء منكر وسلام الأموات معرف ، كذلك روي عن عائشة رضي الله عنها . وقيل عكسه ، أما سلام الرد فمعرف وجعله صاحب النظم أصلا في المسألة فدل أن تعريفه للاستحباب وهو واضح .

وعن أبي جري الهجيمي قال : { أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت عليك السلام يا رسول الله قال : لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى } إسناده جيد رواه أبو داود وترجم عليه باب كراهية أن يقول : عليك السلام .

ورواه الترمذي وقال حسن صحيح وقال بعض الشافعية يكره أن يبتدئ بهذا قال بعضهم ويجب الرد لأنه سلام .

وقد روى أبو داود في الخبر المذكور { إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله } ثم رد على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وعليك ورحمة الله " فهذا من كلام أبي داود وهو من أصحابنا يدل على كراهة الابتداء به ، ويجاب لكن لا على الوجوب لعدم دليله لأنها ليست بتحية شرعية ، وردها النبي صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لا يكره الرد ، أو استحبابا لكن في حق من لا يعرف لا مطلقا ، ويأتي في الفصل بعده كلام أبي المعالي قال أبو البركات : إنما قال ذلك إشارة منه إلى ما جرت به عادة العرب بينهم في [ ص: 376 ] تحية الأموات إنهم كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور كثير في أشعارهم كقول الشاعر :

عليك سلام الله قيس بن عاصم     ورحمته ما شاء أن يترحما



قال في النهاية وإنما فعلوا ذلك لأن المسلم على القوم يتوقع الجواب وأن يقال له عليك السلام ، فلما كان الميت لا يتوقع منه جواب جعلوا السلام عليه كالجواب . وقيل أراد بالموتى كفار الجاهلية قال وهذا في الدعاء بالخير والمدح فأما في الشر والذم فيقدم الضمير كقوله تعالى : { وإن عليك لعنتي } .

وقوله { عليهم دائرة السوء } وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر مر بعبد الله بن الزبير وهو بعقبة بمكة وهو مقتول فقال : السلام عليك أبا خبيب وكرره ثلاثا قال في شرح مسلم فيه استحباب السلام على الميت في قبره ثلاثا كما كرره ابن عمر ، انتهى كلامه .

لم يذكر أصحابنا هذا السلام في حق الميت ، بل ذكروا كما في الأخبار ولا شك أنها أولى ولم يذكروا أيضا تكراره ولعل هذا رأي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع أنه قد ورد تكراره في المهاجرين وقد تقدم .

وللبخاري عن { جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجة ، قال : فأتيته فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي ما الله أعلم به فقلت في نفسي لعله وجد علي أن أبطأت عليه ، ثم سلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى ، ثم سلمت عليه فرد علي وقال : إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة } .

ولمسلم { أنه أومأ بيده } ، وفي هذا الخبر وغيره أنه يستحب لمن منعه من رد السلام مانع أن يعتذر إلى المسلم ( ويذكر ) المانع له ، وكذا نظائره .

[ ص: 377 ] وروى سعيد : حدثنا أبو شهاب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : " إن السلام اسم من أسماء الله وضع في الأرض فأفشوه بينكم فإن العبد إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة أن ذكرهم السلام ، وإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب " .

وقال أبو داود ( باب في فضل من بدأ بالسلام ) حدثنا محمد بن يحيى الذهلي حدثنا أبو عاصم عن أبي خالد وهب عن أبي سفيان الحمصي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن أولى الناس من بدأهم بالسلام } حديث جيد وأبو عاصم الضحاك بن مخلد وأبو خالد وهب بن خالد وأبو سفيان محمد بن زياد الألهاني .

ورواه الترمذي من طرق ضعيفة وحسنه ورواه أحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية