وأما الصعق والغشي ونحو ذلك فحدث في التابعين لقوة الوارد وضعف المورود عليه والصحابة لقوتهم وكمالهم لم يحدث فيهم ، فأقدم من علمت هذا عنه الإمام الرباني من أعيان التابعين الكبار رحمه الله تعالى سمع الربيع بن خيثم رضي الله عنه يقول : { عبد الله بن مسعود إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } فصعق وكان قبل الظهر فلم يفق إلى الليل ، وكذا الإمام القاضي التابعي المتوسط زرارة رحمه الله تعالى قرأ في الصلاة فلما بلغ : { فإذا نقر في الناقور } . شهق فمات ، وكان هذا الحال يحصل كثيرا للإمام علما وعملا شيخ الإمام أحمد وقال الإمام يحيى بن القطان : لو دفع أو لو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه دفعه أحمد يحيى .
وحدث ذلك لغير هؤلاء فمنهم الصادق في حاله ومنهم غير ذلك [ ص: 320 ] ولعمري إن الصادق منهم عظيم القدر ; لأنه لولا حضور قلب حي وعلم معنى المسموع وقدره ، واستشعار معنى مطلوب يتلمح منه ، لم يحصل ذلك لكن الحال الأول أكمل فإنه يحصل لصاحبه ما يحصل لهؤلاء وأعظم مع ثباته وقوة جنانه رضي الله عن الجميع . لكن كثيرا من المتأخرين لا يصدق في هذا الحال ، فسبحان علام الغيوب ، ونعوذ بالله من كل رياء وسمعة .
وقد قال أبو الوفاء بن عقيل في الفنون بعد السؤال هل هو ممدوح أو مذموم ؟ قال : لا يجوز أن يجيب عنها مجيب حتى يبين تحقيق السؤال ، فإن الصعق دخيل على القلب وغما لا عزما غير مكتسب ولا مجتلب ، وما كان بهذه الصفة لا يدخل تحت حكم الشرع بأمر ولا نهي ولا إباحة ، وأما الذي يتحقق من سؤالك أن نقول : هذا التصدي للسماع المزعج للقلوب المهيج للطباع الموجب للصعق جائز أو محظور ؟ وهو كسؤال السائل عن العطسة هل هي مباحة أو محظورة ؟ والجواب أن هذه المسألة لا يجاب عنها جملة ولا جوابا مطلقا ، بل فيها تفصيل وهو أن يقال : إن علم هذا المصغي إلى إنشاد الأشعار أنه يزول عقله ويعزب رأيه بحيث لا يدري ما يصنع من إفساد أو جناية فلا ينبغي أن يتعمد ذلك وهو كالمتعمد لشرب النبيذ الذي يزيل عقله ، وإن كان لا يدري لاختلاف أحواله فإنه تارة يصعق وتارة لا ، فهذا لا يحرم عليه ، ولا يكره ، كذا قال ويتوجه كراهته بخلاف النوم فإنه وإن غطى على العقل فإنه لا يورث اضطرابا تفسد به الأموال ، بل يغطى عقل النائم ثم يحصل معه الراحة . عما يعتري المتصوفة عند سماع الوعظ والغناء
قال : وإذا استولى على العبد معرفة الرب ، وسمع تلاوة القرآن لم يسمع التلاوة إلا من المتكلم بها فصعق السامع خضوعا للمسموع عنه إلى أن قال : فهو الصعق الممدوح يعطل حكم الظاهر ، ويوفر درك الناظر ، لو رأيتموهم لقلتم : مجانين ، والظاهر من خارج أحوالهم ، خلى مما يلوح لهم . [ ص: 321 ]
والأصل في تفاوت هذا صفاء المدارك واختلاف المسالك ، فالقلوب تسمع الأصوات وترجيع الألحان فيحركهم طرب الطباع ، وما عندهم ذوق من الوجد في السماع ، والخواص يدركون بصفاء مداركهم أرواح الألفاظ وهي المعاني ، ومن غلب عليه الإيهام البراني يتعجب مما يسمع من القوم ، وقد قال الواجد :
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعا وسجودا
وقال بعض المشايخ : الناظر إلى القوم من خارج حالهم يتعجب دهشا ، والملاحظ يذوق المناسبة يتلظى عطشا ، كما قال القوال :صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
وقد روى أو غيره أن النسائي لما حدث بحديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار زفر زفرة وخر مغشيا عليه ثم ثانية ثم ثالثة ثم حدث به . والحديث في صحيح أبا هريرة وغيره بدون هذه الزيادة ، فإن صح فهو أول من علمت حدث له ذلك والله أعلم . مسلم
وقال أيضا في الفنون : لما رأينا الشريعة تنهى عن تحريكات الطباع بالرعونات ، وكسرت الطبول والمعازف ، ونهت عن الندب والنياحة والمدح وجر الخيلاء فعلمنا أن الشرع يريد الوقار دون الخلاعة ، فما بال التغيير والوجد ، وتخريق الثياب والصعق ، والتماوت من هؤلاء [ ص: 322 ] المتصوفة ؟ ابن عقيل
وكل مهيج من هؤلاء الوعاظ المنشدين من غزل الأشعار وذكر العشاق فهم كالمغني والنائح ، فيجب تعزيرهم ; لأنهم يهيجون الطباع ، والعقل سلطان هذه الطباع فإذا هيجها صار إهاجة الرعايا على السلطان أما سمعت : ( يا أنجشة ) رويدك سوقا بالقوارير وما العلم إلا الحكمة المتلقاة مع السكون والدعة واعتدال الأمزجة ، أما رأيته عزل القاضي حين غضبه ، وكذلك يعزل حال طربه أما سمعت : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } .
فأين الطرب من الأدب ؟ والله ما رقص قط عاقل ، ولا تعرض للطرب فاضل ، ولا صغى إلى تلحين الشعر إلا بطر ، أليس بيننا القرآن ؟ وقد قال : طلبنا العلم لغير الله فأبى ، وذلك أن بداية الطلب صعبة فهو كلعبة المفطوم ثم يستغني عنها بقوة النهم فيدع الثدي تقذرا واستقذارا .
وقال أيضا : هذه فتن ومحن دخلت على العقول من غلبة الطباع والأهواء ، وهل يحكم على العقول حق قط ؟ وهل رأيتم في السلف أو سمعتم رجلا زعق أو خرق ؟ بل سماع صوت وفهم واستجابة ، فدل على أن ذلك التخبط ليس من قانون الشرع ، لكن أمر بخفض الصوت وغضه ، وأما التواجد والحركة والتخريق فالأشبه بداعية الحق الخمود ، ثكلت نفسي حين أسمع القرآن ولا أخشع ، وأسمع كلام الطرقيين فيظهر مني الانزعاج ، هذا أدل دليل على أن الطباع تورث ما تورث من التغييرات ، وإن ذلك الكلام صدر عن طبع فأهاج طبعا ، وللحق ثقل ، فلا يغرنكم تحرك الطباع بالأسجاع والألحان فإنما هو كعمل الأوتار والأصوات ، وهل نهت الشريعة عن سكر العقار إلا لما يؤدي إليه من هذا الفساد وذكر كلامه كثيرا .
وذكر الحافظ بن الأخضر فيمن روى عن في ترجمة أحمد إبراهيم [ ص: 323 ] بن عبد الله القلانسي قال : قيل : إن لأحمد بن حنبل الصوفية يجلسون في المساجد بلا علم على سبيل التوكل قال : العلم أجلسهم ؟ فقال : ليس مرادهم من الدنيا إلا كسرة خبز وخرقة ، فقال : لا أعلم على وجه الأرض أقواما أفضل منهم قيل إنهم يستمعون ويتواجدون قال : دعوهم يفرحون مع الله تعالى ساعة قيل : فمنهم من يغشى عليه ومنهم من يموت فقال : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } .
كذا روى هذه الرواية ، والمعروف خلاف هذا عنه ، ولعل مراده أنهم يستمعون ويتواجدون عند القرآن فيحصل لبعضهم ما يحصل من الغشي والموت كما كان يحصل ، وعذره الإمام ليحيى بن سعيد القطان فلا يخالفه ، والله أعلم . أحمد