هو أمير المؤمنين وأمه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو حفص القرشي الأموي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ويقال له : أشج بني مروان . وكان يقال : الأشج والناقص أعدلا بني مروان . فهذا هو الأشج ، وسيأتي ذكر الناقص .
كان عمر تابعيا جليلا ، روى عن أنس بن مالك ، والسائب بن يزيد ، ويوسف بن عبد الله بن سلام ، ويوسف صحابي صغير . وروى عن خلق من [ ص: 677 ] التابعين . وعنه جماعة من التابعين وغيرهم . قال الإمام : لا أرى قول أحد من التابعين حجة إلا قول أحمد بن حنبل عمر بن عبد العزيز .
بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك عن عهد منه له بذلك ، كما تقدم . ويقال : كان مولده في سنة إحدى وستين وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما بمصر . قاله غير واحد . وقال محمد بن سعد : ولد سنة ثلاث وستين . وقيل : سنة تسع وخمسين . فالله أعلم .
وكان له جماعة من الإخوة ، ولكن الذين هم من أبويه; أبو بكر وعاصم ومحمد وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن عن يحيى بن معين يحيى بن بكير ، عن الليث قال : بلغني أن عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن رجلا رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز أو ليلة ولي الخلافة شك أبو بكر أن مناديا بين السماء والأرض ينادي : أتاكم اللين والدين ، وإظهار العمل الصالح في المصلين . فقلت : ومن هو؟ فنزل فكتب في الأرض : عمر . وقال : ثنا آدم بن أبي إياس ضمرة ، ثنا أبو علي ثروان مولى [ ص: 678 ] عمر بن عبد العزيز قال : دخل عمر بن عبد العزيز إلى إصطبل أبيه وهو غلام ، فضربه فرس فشجه ، فجعل أبوه يمسح عنه الدم ، ويقول : إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد . رواه الحافظ من طريق ابن عساكر هارون بن معروف عن ضمرة . وقال نعيم بن حماد ثنا ضمام بن إسماعيل عن أن أبي قبيل عمر بن عبد العزيز بكى ، وهو غلام صغير ، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه فقالت : ما يبكيك؟ قال : ذكرت الموت . فبكت أمه . وكان قد جمع القرآن وهو غلام صغير ، وقال الضحاك بن عثمان الحزامي : كان أبوه قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه ، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأله عنه ، فقال : ما خبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام .
وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن عبد العزيز تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوما ، فقال صالح بن كيسان ما شغلك؟ فقال : كانت مرجلتي تسكن شعري . فقال له : أقدمت ذلك على الصلاة؟ وكتب إلى أبيه ، وهو على مصر يعلمه بذلك ، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه . وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه ، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص [ ص: 679 ] عليا ، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه ، وقام يصلي فجلس عمر ينتظره ، فلما سلم أقبل على عمر مغضبا ، وقال له : متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال : ففهمها عمر ، وقال : معذرة إلى الله ثم إليك ، والله لا أعود . قال : فما سمع بعد ذلك يذكر عليا إلا بخير .
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا أبي ثنا المفضل بن عبد الله عن قال : دخل علينا داود بن أبي هند عمر بن عبد العزيز من هذا الباب يعني بابا من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل من القوم : بعث إلينا الفاسق بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن ، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة ويسير بسيرة عمر بن الخطاب . قال داود : فوالله ما مات حتى رأينا ذلك فيه .
وقال الزبير بن بكار حدثني العتبي قال : إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب - أن أباه ولي مصر وهو حديث السن ، يشك في بلوغه ، فأراد إخراجه معه ، فقال : يا أبه ، أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك؟ ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهاء أهلها وأتأدب بآدابهم . فوجهه إلى المدينة ، فقعد مع مشايخ قريش ، وتجنب شبابهم ، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر ذكره ، فلما مات أبوه أخذه عمه [ ص: 680 ] أمير المؤمنين فخلطه بولده ، وقدمه على كثير منهم ، وزوجه بابنته عبد الملك بن مروان فاطمة ، وهي التي يقول فيها الشاعر :
بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها
قال : ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها .قال العتبي : ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئا سوى متابعته في النعمة ، والاختيال في المشية . وقد قال : الكامل من عدت هفواته ، ولا تعد إلا من قلة . الأحنف بن قيس
ودخل يوما على عمه عبد الملك ، وهو يتجانف في مشيته فقال له : يا عمر ، ما لك تمشي غير مشيتك؟ قال : إن في جرحا . فقال : وأين هو من جسدك؟ قال : بين الرانفة والصفن يعني بين طرف الألية وجلدة الخصية فقال عبد الملك : بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا ما أجاب هذا الجواب . لروح بن زنباع
قالوا : ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ، ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين يوما . ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به ، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين ، وأقام للناس الحج سنة تسع وثمانين وسنة تسعين ، وحج بالناس الوليد سنة إحدى وتسعين ، ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين وثلاث وتسعين .
[ ص: 681 ] وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر الوليد له بذلك ، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة ، وأعدلهم سيرة; كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه ، وقد عين عشرة منهم ، وكان لا يقطع أمرا بدونهم أو من حضر منهم ، وهم : عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو بكر بن سليمان بن أبي خثمة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعبد الله بن عامر بن ربيعة
وكان لا يخرج عن قول وخارجة بن زيد بن ثابت . وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحدا من الخلفاء وكان يأتي إلى سعيد بن المسيب عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة . قال ابن وهب ، عن عبد الجبار الأيلي ، عن : قدمت إبراهيم بن أبي عبلة المدينة وبها ابن المسيب ، وغيره وقد ندبهم عمر يومئذ رأيا .
وقال ابن وهب حدثني الليث ، حدثني قادم البربري ، أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيئا من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة ، فقال له ربيعة : كأنك تقول : أخطأ . والذي نفسي بيده ما أخطأ قط . وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك [ ص: 682 ] قال : ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز حين كان على المدينة .
قالوا : وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود ، وفي رواية صحيحة : أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشرا عشرا . وقال ابن وهب حدثني الليث عن أبي النضر المديني ، قال : لقيت سليمان بن يسار خارجا من عند عمر بن عبد العزيز ، فقلت له : من عند عمر خرجت ؟ قال : نعم . قلت : تعلمونه ؟ قال : نعم . فقلت : هو والله أعلمكم . وقال مجاهد : أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه . وقال كانت العلماء عند ميمون بن مهران عمر بن عبد العزيز تلامذة . وفي رواية : قال ميمون : كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء . وقال الليث : حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وكان وابن عباس ، عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة قال : ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه ، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة .
وقال : رأيت أبي تواقف هو عبد الله بن طاوس من [ ص: 683 ] بعد صلاة العشاء حتى أصبحنا ، فلما افترقا قلت : يا أبه ، من هذا الرجل ؟ قال : هذا وعمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز وهو من صالحي هذا البيت ، يعني بني أمية . وقال عبد الله بن كثير قلت : ما كان بدء إنابتك؟ قال : أردت ضرب غلام لي فقال لي : اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة . لعمر بن عبد العزيز
وقال الإمام مالك : لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة يعني في سنة ثلاث وتسعين وخرج منها التفت إليها وبكى ، وقال لمولاه : يا مزاحم ، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة . يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ، وتنصع طيبها .
قلت : خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له : السويداء حينا ، ثم قدم دمشق على بني عمه .
قال محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أبي حكيم قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني ، فلما قدمت الشام نسيت .
وقال : حدثنا الإمام أحمد عفان ، ثنا حماد بن زيد ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته فقال : كل ما [ ص: 684 ] حدثت فقد سمعته ، ولكن حفظت ونسيت .
وقال ابن وهب ، عن الليث عن عقيل عن الزهري قال : قال عمر بن عبد العزيز بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة ، فدخلت عليه فإذا هو عابس ، فأشار إلي أن اجلس فجلست بين يديه ، فقال : ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل ؟ فسكت ثم عاد فسكت ثم عاد ، فقلت : أقتل يا أمير المؤمنين؟ قال : لا ولكن سب . فقلت : ينكل به . فغضب وانصرف إلى أهله ، وقال لي ابن الريان السياف : اذهب . قال : فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه .
وقال عثمان بن زفر : أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال ، فقال سليمان : ما تقول يا عمر في هذا؟ فقال : أرى دنيا يأكل بعضها بعضا وأنت المسئول عن ذلك كله . فلما اقتربوا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة ، فقال له سليمان : ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال : لا أدري . فقال : ما ظنك أنه يقول؟ قال : كأنه يقول : من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟ فقال له [ ص: 685 ] سليمان : ما أعجبك!! فقال عمر : أعجب مني من عرف الله فعصاه ، ومن عرف الشيطان فأطاعه .
وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة وجعل سليمان يعجب من كثرة الناس ، فقال له عمر : هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسئول عنهم غدا . وفي رواية : وهم خصماؤك يوم القيامة . فبكى سليمان وقال : بالله أستعين . وتقدم أنهم لما أصابهم في بعض الأسفار رعد شديد وبرق وظلمة شديدة فجعل عمر يضحك من ذلك ، فقال له سليمان : أتضحك ونحن فيما ترى؟ فقال : نعم ، هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال ، فكيف بآثار غضبه وعقابه؟
وذكر الإمام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة ، فقال له سليمان في جملة الكلام : كذبت . فقال : تقول لي : كذبت ؟ والله ما كذبت منذ عرفت أن الكذب يضر أهله . ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر ، فلم يمكنه سليمان ثم بعث إليه فصالحه ، وقال له : ما عرض لي أمر يهمني إلا خطرت على بالي .
وقد ذكرنا أنه لما حضرت سليمان بن عبد الملك الوفاة ، أوصى بالأمر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز ، فانتظم الأمر على ذلك ولله الحمد .