فيها عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك في اليمن ، يدعو إلى الرضا من آل محمد ، وذلك أن العمال باليمن أساءوا السيرة إلى الرعايا ، فلما ظهر خرج عبد الرحمن هذا بايعه الناس ، فلما بلغ أمره إلى المأمون بعث إليه دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا ، إن هو سمع وأطاع ، فحضروا الموسم ، ثم ساروا إلى اليمن ، فلما انتهوا إلى عبد الرحمن ، بعث دينار بكتاب الأمان فقبله وسمع وأطاع ، وجاء حتى وضع يده في يد دينار ، فسار معه إلى بغداد ولبس السواد فيها .
وفيها توفي طاهر بن الحسين بن مصعب ؛ نائب العراق بكمالها ، [ ص: 162 ] وخراسان بكمالها ، وجد في فراشه ميتا بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش ، فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر ، فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتا ، فلما بلغ موته المأمون قال : لليدين وللفم ، الحمد لله الذي قدمه وأخرنا . وذلك أنه بلغه أنه خطب يوما ولم يدع له فوق المنبر ، ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه ، مع إضافة أرض الجزيرة والشام إلى نيابته ، فاستخلف عبد الله على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين ، ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد ، وكان نائب عبد الله على بغداد إسحاق بن إبراهيم . وقد كان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد وأرض العراق بكمالها من يد الأمين بن الرشيد وقتله أيضا واستوسق الأمر للمأمون ، كما ذكرنا في سنة خمس وتسعين ، وقد دخل طاهر هذا يوما على المأمون فسأله حاجة فقضاها له ، ثم نظر إليه المأمون واغرورقت عيناه ، فقال له طاهر : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فلم يخبره ، فأعطى طاهر حسينا الخادم مائتي ألف درهم حتى استعلم له ما كان خبر بكائه ، فقال له : لا تخبر به أحدا ، أقتلك ، ذكرت مقتل أخي ، وما ناله من الإهانة على يدي [ ص: 163 ] طاهر ، ووالله لا تفوته مني . فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يديه ، ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادما من خدامه ، وعهد إلى الخادم إن رأى منه ما يريبه أن يسمه ، فلما خطب يوم الجمعة طاهر ، ولم يدع للمأمون ، سمه الخادم في كامخ ، فمات من ليلته .
وقد كان طاهر بن الحسين هذا يقال له : ذو اليمينين . وكان بفرد عين ، فقال فيه عمرو بن بانة :
يا ذا اليمينين وعين واحده نقصان عين ويمين زائده
واختلف في معنى كونه ذا اليمينين ، فقيل : لأنه ضرب رجلا بشماله فقده نصفين . ويحتمل أنه لقب بذلك لأنه ولي العراق وخراسان .وقد كان كريما ممدحا يحب الشعر ويجزي عليه الجزيل . ركب يوما في حراقة فقال فيه شاعر :
[ ص: 164 ]
عجبت لحراقة ابن الحسي ن لا غرقت كيف لا تغرق
وبحران من فوقها واحد وآخر من تحتها مطبق
وأعجب من ذاك أعوادها وقد مسها كيف لا تورق
قال ابن خلكان : ما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر :
ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا إلى الله يا مجري الرياح بلطفه
جعلت الندى من كفه مثل موجه فسلمه واجعل موجه مثل كفه
وفي هذه السنة غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة ، حتى بلغ سعر القفيز من [ ص: 165 ] الحنطة أربعين درهما .
وحج بالناس في هذه السنة أبو علي بن الرشيد ، أخو المأمون
وفيها توفي من الأعيان : بشر بن عمر الزهراني ، وجعفر بن عون ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، وقراد أبو نوح ، وكثير بن هشام ، ومحمد بن كناسة ، ومحمد بن عمر الواقدي ، قاضي بغداد وصاحب السير والمغازي ، وأبو النضر هاشم بن القاسم ، والهيثم بن [ ص: 166 ] عدي ، صاحب التصانيف .
الكوفي ، نزيل ويحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور أبو زكريا ، بغداد مولى بني سعد ، المشهور بالفراء ، شيخ النحاة واللغويين والقراء ، وكان يقال له : أمير المؤمنين في النحو . وروى الحديث عن خازم بن الحسين البصري ، عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين [ الفاتحة : 4 ] بالألف . رواه الخطيب ، قال : وكان ثقة إماما .
وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه ، وكتبه الناس عنه ، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن ، وأنه كان يؤدب ولديه وليي العهد ، فقام يوما ، فابتدراه أيهما يقدم نعليه ، فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلا ، فأطلق لهما أبوهما عشرين ألف دينار ، وللفراء عشرة آلاف درهم ، وقال له : لا أعز منك إذ يقدم نعليك وليا العهد .
[ ص: 167 ] وروي أن أو بشرا المريسي محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو ، فقال : لا شيء عليه . قال : ولم ؟ قال : لأن أصحابنا قالوا : المصغر لا يصغر . فقال : ما ظننت أن امرأة تلد مثلك .
والمشهور أن محمدا هو الذي سأله عن ذلك ، وكان ابن خالة الفراء
وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي : توفي الفراء سنة سبع ومائتين .
قال الخطيب : كانت وفاته ببغداد . وقيل : بطريق مكة . وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته .