[ ص: 56 ] [ ص: 57 ] ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة
فيها كان المقتدر بالله ، وكان سبب ذلك أن مقتل الخليفة خرج من مؤنسا الخادم بغداد في المحرم من هذه السنة مغاضبا للخليفة في مماليكه وحشمه ، متوجها نحو الموصل ورد من أثناء الطريق مولاه بشرى إلى المقتدر ليستعلم له ، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ، فلما وصل أمره الوزير الحسين بن القاسم - وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها إليه ، فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة ، فأحضره بين يديه ، فأمره أن يقولها للوزير ، فامتنع ، وقال : ما أمرني صاحبي بهذا . فشتمه الوزير وشتم صاحبه ، وأمر بضربه ومصادرته بثلاثمائة ألف دينار ، وأخذ خطه بها ، وأمر بنهب داره ، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه ، فحصل من ذلك مال عظيم ، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر ، ولقبه عميد الدولة ، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير ، وتمكن من الأمور جدا ، فعزل وولى ، وقطع ووصل ، وفرح بنفسه حينا قليلا . وأرسل إلى هارون بن غريب في الحال ، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة ، عوضا عن مؤنس ، فصمم المظفر مؤنس في مسيره إلى الموصل وجعل يقول لأمراء الأعراب : إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة . فالتف عليه خلق [ ص: 58 ] كثير ، وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة ، وله إليهم قبل ذلك أياد سابغة .
وقد كتب الوزير إلى آل حمدان - وهم ولاة الموصل وتلك النواحي - يأمرهم بمحاربة مؤنس الخادم فركبوا إليه في ثلاثين ألفا ، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من مماليكه وخدمه ، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد يقال له : داود ، كان من أشجعهم ، وقد كان مؤنس رباه وهو صغير . ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته ; لإحسانه إليهم قبل ذلك ، من أهل بغداد والشام ومصر ومن الأعراب ، حتى صار في جحافل من الجنود .
وأما الوزير الحسين بن القاسم ، فإنه ظهرت خيانته وعجزه ، فعزله المقتدر في ربيع الآخر ، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات ، فكان آخر وزراء المقتدر . وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر ، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد ; ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم ، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية من بغداد وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن غريب - عن كره منه - وأشير على الخليفة بأن يستدين من والدته ما ينفق في الأجناد ، فقال : لم يبق عندها شيء ، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط وأن يترك بغداد لمؤنس حتى يتراجع أمر الناس ، ثم يعود إليها . فرده عن ذلك ابن ياقوت ، وأشار عليه بمواجهة مؤنس وأصحابه ، فإنهم متى ما رأوه كروا كلهم إليه ، وتركوا مؤنسا ، فركب وهو كاره ، وبين يديه الفقهاء ، ومعهم [ ص: 59 ] المصاحف منشرة ، وعليه البرد والناس حوله ، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في جيشه : من جاء برأس فله خمسة دنانير ، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير ، ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم ، فامتنع من التقدم إلى محلة المعركة ، ثم ألحوا عليه ، فجاء بعد تمنع شديد ، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين ، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه ، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن يلبق ، فلما رآه ترجل ، وقبل الأرض بين يديه ، وقال : لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم ، ثم وكل به قوما من المغاربة البربر ، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح ، فقال لهم : ويلكم ! أنا الخليفة . فقالوا : قد عرفناك يا سفلة ، إنما أنت خليفة إبليس ، تنادي في جيشك : من جاء برأس فله خمسة دنانير ، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير ؟! وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه ، فسقط إلى الأرض ، وذبحه آخر ، وتركوا جثته ، وقد سلبوه كل شيء كان عليه ، حتى سراويله ، وبقي مكشوف العورة مجدلا على الأرض ، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ، ثم دفنه في موضعه ، وعفا أثره . وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه ، فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضرا الوقعة - فحين نظر إلى رأس المقتدر لطم رأسه ووجهه ، وقال : ويلكم ! لم آمركم بهذا ، لعنكم الله قتلتموه ! والله لنقتلن كلنا . ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب ، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب وابنا رائق إلى المدائن ، وكان صنيع مؤنس هذا سببا لطمع أصحاب الأطراف في الخلفاء ، وضعف أمر الخلافة جدا ، مع ما كان المقتدر يعتمده من التبذير والتفريط في الأموال ، وطاعة النساء ، وعزل الوزراء ، حتى [ ص: 60 ] قيل إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة والتبذير ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار .