[ ص: 582 ] ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة
فيها الحاكم العبيدي صاحب مصر ، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد عدم الحاكم بن العزيز بن المعز الفاطمي صاحب مصر ، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك ; وذلك لأنه كان جبارا عنيدا ، وشيطانا مريدا ، ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة ، وسيرته الملعونة :
كان قبحه الله كثير التلون في أفعاله وأقواله ، جائرا في كيفية بلوغه ما يأمله من ضميره الملعون ; لأنه كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها فرعون في زمان موسى ، عليه السلام .
وكان قد أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا ; إعظاما لذكره واحتراما لاسمه ، فكان يفعل هذا في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين ، وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجودا ، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم .
[ ص: 583 ] وأمر في وقت أهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها ، ثم أذن لهم في العود إلى أديانهم ، وخرب الكنائس ، ثم عمرها ، وخرب قمامة ، ثم أعادها ، وابتنى المدارس وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ، ثم قتلهم وخربها .
وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارا ، وفتحها ليلا ، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا ، حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار ، فوقف عليه فقال : ألم ننهكم عن هذا ؟ فقال : يا سيدي ، أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار ، فهذا من جملة السهر ، فتبسم وتركه . وأعاد الناس إلى أمرهم الأول ، وكل هذا تغيير للرسوم ، واختبار لطاعة العامة ، ليرقى في ذلك إلى ما هو أطم من ذلك ، لعنه الله .
وقد كان يعمل الحسبة بنفسه ، يدور في الأسواق على حمار له ، وكان لا يركب إلا حمارا ، فمن وجده قد غش في معيشته أمر عبدا أسود معه ، يقال له : مسعود ، أن يفعل به الفاحشة العظمى جهارا ، وهذا أمر منكر ملعون ، لم يسبق إليه .
وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن ، وقطع الأعناب حتى لا يتخذ الناس خمرا ، ومنعهم من طبخ الملوخية ، وأشياء من الرعونات التي لا تنضبط ولا تنحصر .
وكانت العامة موتورين منه يبغضونه كثيرا ، ويكتبون له الأوراق التي فيها الشتيمة البليغة له ولأسلافه وحريمه في صورة قصص ، فإذا قرأها ازداد حنقا عليهم ، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها ، وفي يدها قصة فيها من الشتم واللعن والمخالفة له شيء كثير ، فلما رآها ظنها امرأة ، فذهب من ناحيتها ، وأخذ القصة من يدها ، فقرأها فرأى ما فيها ، فأغضبه ذلك ، فأمر بقتل تلك المرأة ، فلما تحققها من ورق [ ص: 584 ] ازداد أيضا غضبا على غضبه ، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر العبيد من السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم ، فذهبت العبيد فامتثلوا ما أمرهم به ، فقاتلهم أهل مصر قتالا عظيما ثلاثة أيام ، والنار تعمل في الدور والحريم في كل يوم ، يخرج هو بنفسه - قبحه الله - فيقف من بعيد ويبكي ، ويقول : من أمر هؤلاء العبيد بهذا ؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ، ورفعوا المصاحف ، وجأروا إلى الله عز وجل ، واستغاثوا به ، فرق لهم الترك والمشارقة ، وانحازوا إليهم ، فقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم ، وتفاقم الحال جدا ، ثم ركب الحاكم - لعنه الله - يفصل بين الفريقين ، وكف العبيد عنهم ، وقد كان يظهر التنصل من القصة ، وأن العبيد ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه ، وكان ينفذ لهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن ، لعنه الله تعالى ، فما انجلى الحال حتى أحرق من مصر نحو من ثلثها ، ونهب قريب من نصفها ، وسبيت حريم خلق كثير ، ففعل بهن الفواحش والمنكرات ، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة ، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد .
قال : ثم زاد ظلم ابن الجوزي ، وعن له أن يدعي الربوبية ، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون : يا واحد يا أحد ، يا محيي يا مميت . الحاكم