[ ص: 347 ] ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة
فيها مصر عز الدين أيبك التركماني بداره ميتا ، وقد ولي الملك بعد أستاذه أصبح الملك المعظم صاحب الصالح نجم الدين أيوب بشهور ، كان فيها ملك تورانشاه المعظم بن الصالح ، ثم شجر الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ، ثم أقيم هو في الملك ومعه الملك خلفته الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس بن الكامل مدة ، ثم استقل بالملك بلا منازعة ، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية ، وقتل الفارس أقطاي في سنة ثنتين وخمسين ، وخلع بعده الأشرف ، واستقل بالملك وحده ، ثم تزوج بشجر الدر أم خليل ، وكان كريما شجاعا حكيما دينا ، ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول ، وهو واقف المدرسة المعزية التي بمصر ، ومجازها من أحسن الأشياء ، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة .
وقد قال بعضهم فيها : هذه مجاز لا حقيقة له . ولما قتل رحمه الله ، اتهم مماليكه زوجته أم خليل المسماة بشجر الدر به ، وقد كان عزم على تزويج ابنة صاحب الموصل فأمرت جواريها أن يمسكنه لها ، فما زالت تضربه بقباقيبها ، والجواري يعركن في معاريه حتى مات وهو [ ص: 348 ] كذلك ، ولما سمع مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر بدر الدين لؤلؤ ، سيف الدين قطز ، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة ، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع ، وقد علمت على المناشير والتواقيع ، وخطب الخطباء باسمها ، وضربت السكة برسمها ، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] وأقامت الأتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني - بإشارة أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز - ولده نور الدين عليا ، ولقبوه الملك المنصور ، وخطب له على المنابر ، وضربت السكة باسمه ، وجرت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه .
وفيها كانت ببغداد بين الرافضة وأهل السنة ، فنهبت الكرخ ودور فتنة عظيمة الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي ، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته التتار .
وفيها الشام ، ومن شعارهم لبس الفراجي والطراطير ، ويقصون لحاهم ، ويتركون شواربهم ، وهو خلاف السنة ، تركوها لمتابعة شيخهم دخلت الفقراء الحيدرية حيدر حين أسره الملاحدة ، فقصوا لحيته ، وتركوا شواربه ، فاقتدوا به في ذلك ، وهو معذور مأجور ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وليس لهم في شيخهم قدوة ، وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية .
[ ص: 349 ] وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف الباذرائية بها الشيخ مدرس النظامية ، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة ، وإصلاح الأحوال المدلهمة ، وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا ، وقد ابتنى نجم الدين عبد الله بن محمد الباذرائي البغدادي بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة ، وشرط على المقيم بها العزوبة ، وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس ، وإنما أراد بذلك توفير خاطر الفقيه وجمعيته على طلب العلم ، ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير ، وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافعية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها ، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها ، وحضر عنده السلطان الناصر ، قرئ كتاب الوقف ، وفيه : ولا يدخلها امرأة . فقال السلطان : ولا صبي؟ فقال الواقف : يا مولانا ، ربنا ما يضرب بعصاتين . فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها ، رحمه الله تعالى .
وكان هو أول من درس بها ، ثم ولده كمال الدين من بعده ، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد ، ثم صار في ذريته إلى الآن . وقد نظر فيه بعض الأوقات القاضي شمس الدين بن الصائغ ، ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر ، وقد أوقف الباذرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة ، وجعل فيها خزانة كتب [ ص: 350 ] حسنة نافعة ، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة ، فولي بها قضاء القضاة كرها منه ، فأقام فيه سبعة عشر يوما ، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة ، ودفن بالشونيزية ، رحمه الله تعالى .
وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت الباذرائي بأيام قلائل التتار على بغداد مقدمة لملكهم نزلت هولاوو بن تولى بن جنكزخان ، عليهم لعائن الرحمن ، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله ، وبالله المستعان .