[ ص: 260 ] ثم
فيها توفي المستنصر بالله وخلفه ولده المستعصم بالله فكانت وفاة الخليفة دخلت سنة أربعين وستمائة المستنصر بالله أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة ، وله من العمر إحدى وخمسون سنة ، وأربعة أشهر وسبعة أيام ، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم . وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما ، ودفن بدار الخلافة ، ثم نقل إلى الترب من الرصافة ، وكان جميل الصورة ، حسن السريرة ، جيد السيرة ، كثير الصدقات والبر والصلات ، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه ، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة بدار الخلافة ، فكان يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أملأها ، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أنفقها كلها . كان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات . وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء ، لاسيما في شهر رمضان ، وكان يتقصد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين ، فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن ، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب ، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام [ ص: 261 ] وغيرهم ، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا ، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة ، وجعل فيها دار حديث ومارستانا ، وحماما ودار طب ، وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفواكه ما يحتاجون إليه في أوقاته ، ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل : إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها ، ووقف فيها كتبا نفيسة ليس لها في الدنيا نظير ، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد ، بل لسائر البلاد .
وقد احترق في هذه السنة المشهد الذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري ، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي ، في حدود سنة خمسين وأربعمائة ، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه ، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له ، وصنفوا فيه أخبارا ، وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها ، وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له ، لا عين ولا أثر ، ولو لم يبن لكان أجود ، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكربلاء ، ابن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين ، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم .
[ ص: 262 ] وكان المستنصر - رحمه الله - كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس ، وكان جميل الصورة ، حسن الأخلاق ، بهي المنظر ، عليه نور بيت النبوة ، رضي الله تعالى عنه وأرضاه . وحكي أنه اجتاز راكبا في بعض أزقة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان ، فرأى شيخا كبيرا ، ومعه إناء فيه طعام ، قد حمله من محلة إلى محلة أخرى ، فقال : أيها الشيخ ، لم لا أخذت الطعام من محلتك؟ أو أنت محتاج فتأخذ من المحلتين؟ فقال : لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير ، وقد نزل بي الوقت ، وأنا أستحيي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام ، وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب ، فأدخل بالطعام إلى منزلي حيث لا يراني أحد . فبكى الخليفة - رحمه الله تعالى - وأمر له بألف دينار ، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا ، حتى قيل : إنه انشق قلبه من شدة الفرح ، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما ، ثم مات فحملت الألف دينار إلى الخليفة; لأنه لم يخلف وارثا ، وقد أنفق منها دينارا واحدا ، فتعجب الخليفة من ذلك ، وقال : شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا ، تصدقوا بها على فقراء محلته .
وقد خلف من الأولاد ثلاثة; اثنان شقيقان ، وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله ، والأمير أبو القاسم عبد العزيز ، وأختهما من أم أخرى كريمة ، صان الله حجابها . وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة ، أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة ، رحمه الله تعالى .
[ ص: 263 ] ولم يستوزر أحدا ، بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة ، ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد بن الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة ، والله تعالى أعلم بالصواب .