على ما ذكره سيف بن عمر في هذه السنة قبل فتح دمشق ، وتبعه على ذلك ، أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله . وأما ، رحمه الله ، فإنه نقل [ ص: 546 ] عن الحافظ ابن عساكر يزيد بن عبيدة والوليد وابن لهيعة والليث وأبي معشر ، أنها كانت في سنة خمس عشرة بعد فتح دمشق . وقال محمد بن إسحاق : كانت في رجب سنة خمس عشرة . وقال خليفة بن خياط : قال ابن الكلبي : كانت وقعة اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة . قال : وهذا هو المحفوظ ، وما قاله ابن عساكر سيف من أنها قبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة ، فلم يتابع عليه .
قلت : وهذا ذكر سياق سيف وغيره على ما أورده ابن جرير وغيره ، قالوا : ولما توجهت هذه الجيوش نحو الشام أفزع ذلك الروم وخافوا خوفا شديدا ، وكتبوا إلى هرقل يعلمونه بما كان من الأمر ، فيقال : إنه كان يومئذ بحمص . ويقال : بل كان حج عامه ذلك إلى بيت المقدس . فلما انتهى إليه الخبر قال لهم : ويحكم ! إن هؤلاء أهل دين جديد ، وإنهم لا قبل لأحد بهم ، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام ، ويبقى لكم جبال الروم ، وإن أنتم أبيتم ذلك ، أخذوا منكم الشام وضيقوا عليكم جبال الروم . فنخروا من ذلك نخرة حمر الوحش ، كما هي عاداتهم في قلة المعرفة ، والرأي بالحرب والنصرة في الدين والدنيا ، فعند ذلك سار إلى حمص ، وأمر هرقل بخروج الجيوش الرومية صحبة الأمراء ، في مقابلة كل أمير من المسلمين [ ص: 547 ] جيش كثيف ، فبعث إلى عمرو بن العاص أخاه لأبويه تذارق في تسعين ألفا من المقاتلة ، وبعث جرجة بن توذرا إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان ، فعسكر بإزائه ، وبعث الدراقص إلى شرحبيل ابن حسنة ، وبعث القيقار - ويقال : القيقلان . قال ابن إسحاق : وهو حصي هرقل - ابن نسطورس ، في ستين ألفا إلى . وقالت أبي عبيدة بن الجراح الروم : والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا . وجميع عساكر المسلمين أحد وعشرون ألفا سوى الجيش الذي مع ، وكان واقفا في طرف عكرمة بن أبي جهل الشام ردءا للناس في ستة آلاف ، فكتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم ، فكتب إليهم أن يجتمعوا فيكونوا جندا واحدا ، والقوا جنود المشركين ، فأنتم أعوان الله ، والله ناصر من نصره ، وخاذل من كفره ، ولن يؤتى مثلكم عن قلة ، ولكن من تلقاء الذنوب ، فاحترسوا منها ، وليصل كل رجل منكم بأصحابه . وقال الصديق : والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد . وبعث إليه وهو بالعراق ليقدم إلى الشام ، فيكون الأمير على من به ، فإذا فرغ عاد إلى عمله بالعراق . فكان ما سنذكره . ولما بلغ هرقل ما أمر به الصديق أمراءه من الاجتماع ، بعث إلى أمرائه أن يجتمعوا أيضا ، وأن ينزلوا [ ص: 548 ] بالجيش منزلا واسع العطن ، واسع المطرد ، ضيق المهرب ، وعلى الناس أخوه تذارق ، وعلى المقدمة جرجة ، وعلى المجنبتين باهان والدراقص ، وعلى الحرب القيقلان . .
وقال محمد بن عائذ عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن عبد العزيز : إن المسلمين كانوا أربعة وعشرين ألفا ، وعليهم أبو عبيدة ، والروم كانوا عشرين ومائة ألف ، عليهم باهان وسقلاب ، يوم اليرموك .
وكذا ذكر ابن إسحاق أن سقلاب الحصي كان على الروم يومئذ في مائة ألف ، وعلى المقدمة جرجة من أرمينية في اثني عشر ألفا ، ومن المستعربة اثنا عشر ألفا عليهم جبلة بن الأيهم ، والمسلمون في أربعة وعشرين ألفا ، فقاتلوا قتالا شديدا ، حتى قاتلت النساء من ورائهم أشد القتال .
وقال الوليد ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : بعث هرقل مائتي ألف ، عليهم باهان الأرمني .
قال سيف : فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريبا من اليرموك ، وصار الوادي خندقا عليهم ، وبعث الصحابة إلى الصديق يستمدونه ، ويعلمونه بما اجتمع من [ ص: 549 ] جيش الروم باليرموك ، فكتب الصديق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق ، وأن يقفل بمن معه إلى الشام فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم . فاستناب المثنى بن حارثة على العراق ، فسار خالد مسرعا في تسعة آلاف - ويقال : ثمانمائة ، أو خمسمائة - ودليله رافع بن عميرة الطائي ، فأخذ به على السماوة ، حتى انتهى إلى قراقر ، وسلك به أراضي لم يسلكها قبله أحد ، فاجتاب البراري والقفار ، وقطع الأودية ، وتصعد على الجبال ، وسار في غير مهيع ، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق وهو أرمد ، وعطش النوق وسقاها الماء عللا بعد نهل ، وقطع مشافرها وكعمها حتى لا تجتر ، وخل أدبارها ، واستاقها معه ، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء ، ويقال : بل سقاه الخيل وشربوا ما كانت تحمله من الماء وأكلوا لحومها ، ووصل ، ولله الحمد والمنة ، في خمسة أيام ، فخرج على الروم من ناحية تدمر ، فصالح أهل تدمر وأرك ، ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أموالا عظيمة ، وخرج من شرقي دمشق ، ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى ، فوجد الصحابة محاصريها ، فصالحه صاحبها وسلمها إليه ، فكانت . ولله الحمد . أول مدينة [ ص: 550 ] فتحت من الشام
وبعث خالد بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحارث المزني إلى الصديق ، ثم سار خالد وأبو عبيدة ويزيد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص ، وقد قصده الروم بأرض العربات من الغور فكانت واقعة أجنادين ، وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد :
لله عينا رافع أنى اهتدى فوز من قراقر إلى سوى خمسا إذا ما سارها الجيش بكى
ما سارها قبلك إنسي أرى
قال غير ابن إسحاق كسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهما في تكميل السياق الأول : حين اجتمعت الروم مع أمرائها بالواقوصة ، وانتقل الصحابة من منزلهم الذي كانوا فيه فنزلوا قريبا من الروم في طريقهم الذي ليس لهم طريق غيره ، فقال عمرو بن العاص : أبشروا أيها الناس ، فقد حصرت والله الروم ، [ ص: 551 ] وقلما جاء محصور بخير . ويقال : إن الصحابة لما اجتمعوا للمشورة في كيفية المسير إلى الروم ، جلس الأمراء لذلك ، فجاء أبو سفيان فقال : ما كنت أظن أني أعمر حتى أدرك قوما يجتمعون لحرب ولا أحضرهم . ثم أشار أن يتجزأ الجيش ثلاثة أجزاء ، فيسير ثلثه فينزلون تجاه الروم ، ثم تسير الأثقال والذراري في الثلث الآخر ، ويتأخر خالد بالثلث الآخر ، حتى إذا وصلت الأثقال إلى أولئك سار بعدهم ، ونزلوا في مكان تكون البرية من وراء ظهورهم ; ليصل إليهم البرد والمدد . فامتثلوا ما أشار به ، ونعم الرأي هو .
وذكر الوليد عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير ، أن الروم نزلوا فيما بين دير أيوب واليرموك ، ونزل المسلمون من وراء النهر من الجانب الآخر ، وأذرعات خلفهم ; ليصل إليهم المدد من المدينة .
ويقال : إن خالدا إنما قدم عليهم بعدما نزل الصحابة تجاه الروم ، بعدما صابروهم وحاصروهم شهر ربيع الأول بكماله ، فلما انسلخ وأمكن القتال لقلة الماء ، بعثوا إلى الصديق يستمدونه ، فقال : خالد لها . فبعث إلى خالد ، فقدم عليهم في ربيع الآخر ، فعند وصول خالد إليهم أقبل باهان مددا للروم ، ومعه القساقسة ، والشمامسة والرهبان ، يحثونهم ويحرضونهم على القتال لنصر دين النصرانية ، فتكامل جيش الروم أربعين ومائتي ألف ; ثمانون ألف مسلسل بالحديد والحبال ، وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل .
[ ص: 552 ] وقيل : بل كان الذين تسلسلوا - كل عشرة في سلسلة ; لئلا يفروا - ثلاثين ألفا . فالله أعلم .
قال سيف : وقدم عكرمة بمن معه من الجيوش ، فتكامل جيش الصحابة ستة وثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا .
وعند ابن إسحاق والمدائني أيضا أن وقعة أجنادين قبل وقعة اليرموك وكانت واقعة أجنادين لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، وقتل بها بشر كثير من الصحابة ، وهزم الروم وقتل أميرهم القيقلان . وكان قد بعث رجلا من نصارى العرب يجس له أمر الصحابة ، فلما رجع إليه قال : وجدت قوما رهبانا بالليل فرسانا بالنهار ، والله لو سرق فيهم ابن ملكهم قطعوه ، أو زنى لرجموه . فقال له القيقلان : والله لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من ظهرها .
وقال سيف بن عمر في سياقه : ووجد خالد الجيوش متفرقة فجيش أبي عبيدة ناحية ، وجيش يزيد وعمرو بن العاص وشرحبيل ناحية ، فقام خالد في الناس خطيبا ، فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف ، فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم في أول جمادى الآخرة ، وقام خالد بن الوليد في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا يوم من أيام الله ، لا ينبغي فيه الفخر ولا [ ص: 553 ] البغي ، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم ، وإن هذا يوم له ما بعده ، إن رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم ، وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدا ، فتعالوا فلنتعاور الإمارة ، فليكن عليها بعضنا اليوم ، والآخر غدا ، والآخر بعد غد ، حتى يتأمر كلكم ، ودعوني اليوم أليكم . فأمروه عليهم ، وهم يظنون أن الأمر يطول جدا ، فخرجت الروم في تعبئة لم ير مثلها قط ، وخرج خالد في تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك ; فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين ، كل كردوس ألف رجل عليهم أمير ، وجعل أبا عبيدة في القلب ، وعلى الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل ابن حسنة ، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان ، وأمر على كل كردوس أميرا ، وعلى الطلائع قباث بن أشيم ، وعلى الأقباض ، والقاضي يومئذ عبد الله بن مسعود أبو الدرداء ، وقاصهم الذي يعظهم ويحثهم على القتال ، وقارئهم الذي يدور على الناس فيقرأ سورة " الأنفال " وآيات الجهاد أبو سفيان بن حرب المقداد بن الأسود .
وذكر إسحاق بن بشر بإسناده ، أن أمراء الأرباع يومئذ كانوا أربعة ; أبو عبيدة ، ، وعمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وخرج الناس على راياتهم ، وعلى الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة قباث بن أشيم [ ص: 554 ] الكناني ، وعلى الرجالة ، وعلى الخيالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص خالد بن الوليد وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه .
ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها ، كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة ، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال ، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش ، فساق بفرسه إلى أبي عبيدة ، فقال له : إني مشير بأمر . فقال : قل ما أراك الله ، أسمع لك وأطع . فقال له خالد : إن هؤلاء القوم لا بد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها ، وإني أخشى على الميمنة والميسرة ، وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين وأجعلها من وراء الميمنة والميسرة ، حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءا من ورائهم . فقال له : نعم ما رأيت . فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة ، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى ، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله ; لكي إذا رآه المنهزم استحيى منه ، ورجع إلى القتال ، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب أحد العشرة ، رضي الله عنهم ، وساق سعيد بن زيد العدوي خالد إلى النساء من وراء الجيش ، ومعهن عدد من السيوف وغيرها ، فقال لهن : من رأيتموه موليا فاقتلنه . ثم رجع إلى موقفه ، رضي الله عنه .
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان ، وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال : عباد الله ، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، يا معشر المسلمين ، اصبروا ; فإن [ ص: 555 ] الصبر منجاة من الكفر ، ومرضاة للرب ، ومدحضة للعار ، ولا تبرحوا مصافكم ، ولا تخطوا إليهم خطوة ، ولا تبدأوهم بالقتال ، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق ، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم ، حتى آمركم إن شاء الله تعالى .
قالوا : وخرج معاذ بن جبل على الناس ، فجعل يذكرهم ويقول : يا أهل القرآن ومستحفظي الكتاب ، وأنصار الهدى والحق ، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني ، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ، ألم تسمعوا لقول الله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات الآية [ النور : 55 ] . فاستحيوا ، رحمكم الله ، من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته ، وليس لكم ملتحد من دونه ، ولا عز بغيره .
وقال عمرو بن العاص : يا أيها المسلمون ، غضوا الأبصار ، واجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم ، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد ، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ، ويمقت الكذب ، ويجزي بالإحسان إحسانا ، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا ، وقصرا قصرا ، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم ، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل وقال أبو سفيان : يا معشر المسلمين ، أنتم العرب ، وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل ، نائين عن أمير المؤمنين وأمداد المسلمين ، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده ، شديد عليكم حنقه ، وقد وترتموهم في أنفسهم [ ص: 556 ] وبلادهم ونسائهم ، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا ، إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة ، ألا وإنها سنة لازمة ، وإن الأرض وراءكم ، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري ، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد الله ، فهو خير معول ، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ، ولتكن هي الحصون . ثم ذهب إلى النساء فوصاهن ، ثم عاد فنادى : يا معاشر أهل الإسلام ، حضر ما ترون فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنة أمامكم ، والشيطان والنار خلفكم . ثم سار إلى موقفه ، رحمه الله .
وقد وعظ الناس أيضا فجعل يقول : سارعوا إلى الحور العين ، وجوار ربكم ، عز وجل ، في جنات النعيم ، ما أنتم إلى ربكم في موطن أحب إليه منكم في مثل هذا الموطن ، ألا وإن للصابرين فضلهم . أبو هريرة
قال سيف بن عمر بإسناده عن شيوخه : إنهم قالوا : كان في ذلك الجمع ألف رجل من الصحابة ; منهم مائة من أهل بدر . وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول : الله الله ، إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام ، وإنهم دارة الروم وأنصار الشرك ، اللهم إن هذا يوم من أيامك ، اللهم أنزل نصرك على عبادك . قالوا : ولما أقبل خالد من العراق قال رجل من نصارى العرب : ما أكثر لخالد بن الوليد الروم وأقل المسلمين ! فقال خالد : ويلك ، أتخوفني بالروم ؟ [ ص: 557 ] إنما تكثر الجنود بالنصر ، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال ، والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد . وكان فرسه قد حفي واشتكى في مجيئه من العراق . ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ، ومعهما ضرار بن الأزور ، ، والحارث بن هشام ، ونادوا : إنما نريد أميركم لنجتمع به . فأذن لهم في الدخول على تذارق ، وإذا هو جالس في خيمة من حرير ، فقال الصحابة : لا نستحل دخولها . فأمر لهم بفرش ; بسط من حرير ، فقالوا : ولا نجلس على هذه . فجلس معهم حيث أحبوا ، وتراضوا على الصلح ، ورجع عنهم الصحابة بعدما دعوهم إلى الله عز وجل ، فلم يتم ذلك . وأبو جندل بن سهيل
وذكر الوليد بن مسلم أن باهان طلب خالدا ; ليبرز إليه فيما بين الصفين ، فيجتمعا في مصلحة لهم ، فقال باهان : إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع ، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاما ، وترجعون إلى بلادكم ، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها . فقال خالد : إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت ، غير أنا قوم نشرب الدماء ، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم ، فجئنا لذلك . فقال أصحاب باهان : هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب .
قالوا : ثم تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو - وهما [ ص: 558 ] على مجنبتي القلب - أن ينشئا القتال ، فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز ، وتنازل الأبطال ، وتجاولوا وحمي الحرب ، وقامت على ساق ، هذا وخالد معه كردوس من الحماة الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف ، والأبطال يتصاولون من الفريقين بين يديه ، وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل ، ويدبر أمر الحرب أتم تدبير .
وقال عن إسحاق بن بشر سعيد بن عبد العزيز ، عن قدماء مشايخ دمشق قالوا : ثم زحف باهان فخرج أبو عبيدة وقد جعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة قباث بن أشيم الكناني ، وعلى الرجالة ، وعلى الخيل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص خالد بن الوليد ، وخرج الناس على راياتهم وسار أبو عبيدة بالمسلمين وهو يقول : عباد الله ، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، يا معشر المسلمين اصبروا ، وصابروا ، فإن الصبر منجاة من الكفر ، ومرضاة للرب ، ومدحضة للعار ، ولا تبرحوا مصافكم ، ولا تخطوا إليهم خطوة ، ولا تبدأوهم بالقتال ، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله وخرج معاذ بن جبل ، فجعل يذكرهم ويقول : يا أهل القرآن ، ومستحفظي الكتاب ، وأنصار الهدى والحق ، إن رحمة الله لا تنال ، وجنته لا تدخل بالأماني ، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ، ألم تسمعوا لقول الله عز وجل : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات [ ص: 559 ] إلى آخر الآية [ النور : 55 ] . فاستحيوا ، رحمكم الله ، من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم ، وأنتم في قبضته ، وليس لكم ملتحد من دونه .
وسار عمرو بن العاص في الناس وهو يقول : أيها المسلمون ، غضوا الأبصار ، واجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم ، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا وثبة الأسد ، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ، ويمقت الكذب ، ويجزي الإحسان إحسانا ، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا ، وقصرا قصرا ، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم ، فإنكم لو صدقتموهم الشد لتطايروا تطاير أولاد الحجل .
ثم تكلم أبو سفيان فأحسن وحث على القتال ، فأبلغ في كلام طويل ثم قال حين تواجه الناس : يا معشر أهل الإسلام ، حضر ما ترون ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنة أمامكم ، والشيطان والنار خلفكم . وحرض أبو سفيان النساء فقال : من رأيتنه فارا فاضربنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع . وأشار خالد أن يقف في القلب سعيد بن زيد ، وأن يكون أبو عبيدة من وراء الناس ليرد المنهزم ، وقسم خالد الخيل قسمين ; فجعل فرقة وراء الميمنة ، وفرقة وراء الميسرة ; لئلا يفر الناس وليكونوا ردءا لهم من ورائهم ، فقال له أصحابه : افعل ما أراك الله . وامتثلوا ما أشار به خالد ، رضي الله عنه ، وأقبلت الروم رافعة صلبانها ، ولهم أصوات مزعجة كالرعد ، والقساقسة والبطارقة تحرضهم على القتال ، وهم في عدد وعدد لم ير مثله . فالله المستعان وعليه التكلان .
وقد كان فيمن شهد اليرموك ، وهو أفضل من هناك من الصحابة ، وكان من فرسان الناس وشجعانهم ، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا : ألا تحمل فنحمل معك ؟ فقال : إنكم لا تثبتون . فقالوا : [ ص: 560 ] بلى . فحمل وحملوا ، فلما واجهوا صفوف الزبير بن العوام الروم أحجموا وأقدم هو ; فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه ، ثم جاءوا إليه مرة ثانية ، ففعل كما فعل في الأولى ، وجرح يومئذ جرحين بين كتفيه . وفي رواية : جرح . وقد روى البخاري معنى ما ذكرناه في " صحيحه " .
وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول : اللهم زلزل أقدامهم ، وأرعب قلوبهم ، وأنزل علينا السكينة ، وألزمنا كلمة التقوى ، وحبب إلينا اللقاء ، ورضنا بالقضاء . وخرج باهان فأمر صاحب الميسرة ، وهو الذربيجان ، وكان عدو الله متنسكا فيهم ، فحمل على الميمنة ، وفيها الأزد ومذحج وحضرموت وخولان ، فثبتوا حتى صدقوا أعداء الله ، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال ، فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب ، وانكشفت طائفة من الناس إلى العسكر ، وثبت صدر من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم ، وانكشفت زبيد ، ثم تنادوا فتراجعوا وحملوا حتى نهنهوا من أمامهم من الروم ، وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس ، واستقبل النساء من انهزم من سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة ، وجعلت خولة بنت ثعلبة تقول :
يا هاربا عن نسوة تقيات فعن قليل ما ترى سبيات
ولا حظيات ولا رضيات
قال : فتراجع الناس إلى مواقفهم .[ ص: 561 ] وقال سيف بن عمر ، عن أبي عثمان الغساني ، عن أبيه قال : قال : يوم عكرمة بن أبي جهل اليرموك قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم ؟ ! ثم نادى : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا ، وقتل منهم خلق ، منهم ضرار بن الأزور ، رضى الله عنهم .
وقد ذكر الواقدي وغيره ، أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء ، فجيء إليهم بشربة ماء ، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر ، فقال : ادفعها إليه . فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر ، فقال : ادفعها إليه . فتدافعوها بينهم ، من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا ، ولم يشربها أحد منهم ، رضي الله عنهم أجمعين .
ويقال : إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا رجل جاء إلى أبي عبيدة فقال : إني قد تهيأت لأمري ، فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، تقرأه عني السلام وتقول : يا رسول الله ، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . قال : فتقدم هذا الرجل فقاتل حتى قتل ، رحمه الله .
قالوا : وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحى ، فلم ير يوم اليرموك أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا ، وكفا طائرة ، من [ ص: 562 ] ذلك الموطن ، ثم حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب ، فقتل في حملته هذه ستة آلاف منهم ، ثم قال : والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد غير ما رأيتم ، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم . ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف . فما وصل إليهم حتى انفض جمعهم ، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم .
قالوا : وبينما هم في جولة الحرب وحومة الوغى ، والأبطال يتصاولون من كل جانب ، إذ قدم البريد من نحو الحجاز ، فدفع إلى خالد بن الوليد فقال له : ما الخبر ؟ فقال له ، فيما بينه وبينه : إن الصديق ، رضي الله عنه ، قد توفي ، واستخلف عمر ، فاستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح . فأسرها خالد ، ولم يبد ذلك للناس ; لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال ، وقال له والناس يسمعون : أحسنت . وأخذ منه الكتاب فوضعه في كنانته ، واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة ، وأوقف الرسول الذي جاء بالكتاب - وهو محمية بن زنيم - إلى جانبه . كذا ذكره ابن جرير بأسانيده .
قالوا : وخرج جرجة أحد الأمراء الكبار من الصف ، واستدعى خالد بن الوليد فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما ، فقال جرجة : يا خالد ، أخبرني فاصدقني ولا تكذبني ، فإن الحر لا يكذب ، ولا تخادعني ، فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله ، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله [ ص: 563 ] على أحد إلا هزمتهم ؟ قال : لا . قال : فبم سميت سيف الله ؟ قال : إن الله بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم ، فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا ، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه ، وبعضنا كذبه وباعده ، فكنت فيمن كذبه وباعده ، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه ، فقال لي : أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين . ودعا لي بالنصر ، فسميت سيف الله بذلك ، فأنا من أشد المسلمين على المشركين . فقال جرجة : يا خالد ، إلام تدعون ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، عز وجل . قال : فمن لم يجبكم ؟ قال : فالجزية ونمنعهم . قال : فإن لم يعطها ؟ قال : نؤذنه بالحرب ثم نقاتله . قال : فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال : منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا ، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا . قال جرجة : فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر ؟ قال : نعم ، وأفضل . قال : وكيف يساويكم وقد سبقتموه ؟ فقال خالد : إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات ، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع ، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا . فقال جرجة : بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ؟ قال : بالله لقد صدقتك ، وإن [ ص: 564 ] الله ولي ما سألت عنه . فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد ، وقال : علمني الإسلام . فمال به خالد إلى فسطاطه ، فشن عليه قربة من ماء ، ثم صلى به ركعتين ، وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة ، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية ، عليهم عكرمة بن أبي جهل ، فركب والحارث بن هشام خالد وجرجة معه ، والروم خلال المسلمين ، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الروم إلى مواقفهم ، وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف ، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب ، وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء ، وأصيب جرجة ، رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد ، رضي الله عنهما ، وتضعضعت الروم عند ذلك ، ثم نهد خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم ، فعند ذلك هربت خيالتهم ، واشتدت بهم في تلك الصحراء ، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا ، وأخر الناس صلاتي العشاء حتى استقر الفتح وعمد خالد إلى رجل الروم - وهم الرجالة - ففصلوهم عن آخرهم ، حتى صاروا كأنهم حائط قد هدم ، ثم تبعوا من فر من الخيالة ، واقتحمخالد عليهم خندقهم ، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة ، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحد منهم سقط الذين معه . قال ابن جرير وغيره : فسقط فيها وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في المعركة .
[ ص: 565 ] وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم ، وقتلوا خلقا كثيرا من الروم . وكن يضربن من انهزم من المسلمين ويقلن : أين تذهبون وتدعوننا للعلوج ؟ ! فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال .
قال : وتجلل القيقلان وأشراف من قومه من الروم ببرانسهم ، وقالوا : إذا لم نقدر على نصر دين النصرانية ، فلنمت على دينهم . فجاء المسلمون فقتلوهم عن آخرهم .
قالوا : وقتل في هذا اليوم من المسلمين ثلاثة آلاف ؛ منهم عكرمة وابنه عمرو ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، - وأثبت وأبان بن سعيد خالد بن سعيد فلا يدرى أين ذهب ، وضرار بن الأزور - وهشام بن العاص وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي ، وحقق الله رؤيا أبيه يوم اليمامة .
وقد انكشف في هذا اليوم جماعة من الناس ; انهزم عمرو بن العاص في أربعة ، حتى وصلوا إلى النساء ، ثم رجعوا حين زجرهم النساء ، وانكشف شرحبيل ابن حسنة وأصحابه ، ثم تراجعوا حين وعظهم الأمير بقوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية [ التوبة : 111 ] . وثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان ، وقاتل قتالا شديدا ، وذلك أن أباه مر به فقال [ ص: 566 ] له : يا بني ، عليك بتقوى الله والصبر ; فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفا بالقتال ، فكيف بك وبأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين ؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة ، فاتق الله يا بني ، ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ، ولا أجرأ على عدو الإسلام منك ، فقال : أفعل إن شاء الله . فقاتل يومئذ قتالا شديدا ، وكان من ناحية القلب ، رضي الله عنه .
وقال ، عن أبيه قال : هدأت الأصوات يوم سعيد بن المسيب اليرموك فسمعنا صوتا يكاد يملأ العسكر يقول : يا نصر الله اقترب ، الثبات الثبات يا معشر المسلمين . قال : فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد . .
وأكمل خالد ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل ، وهو أمير الروم كلهم يومئذ ، هرب فيمن هرب ، وباتت الخيول تجول نحو خيمة خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا ، وقتل تذارق ، وكان له ثلاثون سرادقا وثلاثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير ، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم ، وما فرحوا بما وجدوا بقدر حزنهم على الصديق حين أعلمهم خالد بذلك ، ولكن عوضهم الله بالفاروق رضي الله عنه . وقال خالد حين عزى المسلمين في الصديق : الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر ، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلي من أبي بكر ، وألزمني حبه .
[ ص: 567 ] وقد اتبع خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق ، فخرج إليه أهلها فقالوا : نحن على عهدنا وصلحنا ؟ قال : نعم . ثم اتبعهم إلى ثنية العقاب ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، ثم ساق وراءهم إلى حمص ، فخرج إليه أهلها فصالحهم كما صالح أهل دمشق ، وبعث أبو عبيدة عياض بن غنم وراءهم أيضا ، فساق حتى وصل ملطية فصالحه أهلها ورجع ، فلما بلغ هرقل ذلك بعث إلى مقاتليها فحضروا بين يديه ، وأمر بملطية فحرقت ، وانتهت الروم منهزمة إلى هرقل وهو بحمص ، والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون ، فلما وصل الخبر إلى هرقل ارتحل من حمص ، وجعلها بينه وبين المسلمين ، وترس بها ، وقال هرقل : أما الشام فلا شام ، وويل للروم من المولود المشئوم .
ومما قيل من الأشعار في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو :
ألم ترنا على اليرموك فزنا كما فزنا بأيام العراق
فتحنا قبلها بصرى وكانت محرمة الجناب لدى البعاق
وعذراء المدائن قد فتحنا ومرج الصفرين على العتاق
قتلنا من أقام لنا وفينا نهابهم بأسياف رقاق
قتلنا الروم حتى ما تساوي على اليرموك ثفروق الوراق
[ ص: 568 ] فضضنا جمعهم لما استحالوا على الواقوص بالبتر الرقاق
غداة تهافتوا فيها فصاروا إلى أمر يعضل بالذواق
وكم قد أغرنا غارة بعد غارة ويوما ويوما قد كشفنا أهاوله
ولولا رجال كان حشو غنيمة لدى مأقط رجت علينا أوائله
لقيناهم اليرموك لما تضايقت بمن حل باليرموك منه حمائله
فلا يعدمن منا هرقل كتائبا إذا رامها رام الذي لا يحاوله
القوم لخم وجذام في الحرب ونحن والروم بمرج نضطرب
فإن يعودوا بعدها لا نصطحب بل نعصب الفرار بالضرب الكلب
وقال : أخبرني من سمع الوليد بن مسلم يحيى بن يحيى الغساني يحدث عن رجلين من قومه ، قالا : لما نزل المسلمون بناحية الأردن تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر ، فذهبنا نتسوق منها قبل ذلك ، فبينا نحن فيها إذ أرسل إلينا بطريقها فجئناه فقال : أنتما من العرب ؟ قلنا : نعم . قال : وعلى النصرانية ؟ قلنا : نعم . فقال : ليذهب أحدكما فليتجسس لنا عن هؤلاء القوم ورأيهم ، وليثبت الآخر على متاع صاحبه . ففعل ذلك أحدنا ، فلبث مليا ثم جاءه فقال : جئتك من عند رجال دقاق ، يركبون خيولا عتاق ، أما الليل فرهبان ، وأما النهار ففرسان ، يريشون النبل ويبرونها ، ويثقفون القنا ، لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك ; لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر . قال : فالتفت إلى أصحابه وقال : أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به .