فتح السوس
ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش ومعه أبو موسى الأشعري ، واستصحبوا معهم والنعمان بن مقرن الهرمزان ، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس [ ص: 62 ] حتى نزلوا على السوس فأحاطوا بها . وكتب أبو سبرة إلى عمر فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة وأمر عمر زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي - وهو صحابي - أن يسير إلى جنديسابور ، فسار ، ثم بعث أبو سبرة بالخمس وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك فلما اقتربوا من والأحنف بن قيس ، المدينة هيئوا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ ، ثم دخلوا المدينة وهو كذلك ، فتيمموا به منزل أمير المؤمنين ، فسألوا عنه فقالوا : إنه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة . فجاءوا المسجد فلم يروا أحدا فرجعوا ، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه ، فقالوا : إنه نائم في المسجد متوسدا برنسا له . فرجعوا إلى المسجد فإذا هو متوسد برنسا له كان قد لبسه للوفد ، فلما انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره ، والدرة معلقة في يده . فقال الهرمزان أين عمر ؟ فقالوا : هو ذا . وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه ، وجعل الهرمزان يقول : وأين حجابه ، أين حرسه ؟ فقالوا : ليس له حجاب ولا حرس ، ولا كاتب ولا ديوان . فقال : ينبغي أن يكون نبيا . فقالوا : بل يعمل عمل الأنبياء . وكبر الناس ، فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسا ، ثم نظر إلى الهرمزان ، فقال : الهرمزان ؟ قالوا : نعم . فتأمله وتأمل ما عليه ، ثم قال : أعوذ بالله من النار ، وأستعين بالله . ثم قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه ، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدي نبيكم ، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة . فقال له الوفد : [ ص: 63 ] هذا ملك الأهواز فكلمه . فقال : لا ؛ حتى لا يبقى عليه من حليته شيء . ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبا صفيقا ، فقال عمر : هي يا هرمزان ! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله ؟ فقال : يا عمر ، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم ، إذ لم يكن معنا ولا معكم ، فلما كان معكم غلبتمونا . فقال عمر : إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا . ثم قال عمر : ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة ؟ فقال : أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك . قال : لا تخف ذلك . واستسقى الهرمزان ماء ، فأتي به في قدح غليظ ، فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في هذا . فأتي به في قدح آخر يرضاه ، فلما أخذه جعلت يده ترعد ، وقال : إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب . فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه . فأكفأه ، فقال عمر : أعيدوه عليه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش . فقال : لا حاجة لي في الماء ، إنما أردت أن أستأنس به . فقال له عمر : إني قاتلك . فقال : إنك أمنتني . قال : كذبت . فقال أنس : صدق يا أمير المؤمنين . فقال عمر : ويحك يا أنس ، أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء لتأتيني بمخرج أو لأعاقبنك . قال : قلت : لا بأس عليك حتى تخبرني . وقلت : لا بأس عليك حتى تشربه . وقال له من حوله مثل ذلك . فأقبل على الهرمزان ، [ ص: 64 ] فقال : خدعتني ، والله لا أنخدع إلا أن تسلم ، فأسلم ، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة .
وفي رواية أن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة ، فقال له عمر : قل له : من أي أرض أنت ؟ فقال : مهرجاني . قال : تكلم بحجتك . فقال : أكلام حي أم ميت ؟ قال : بل كلام حي . فقال : قد أمنتني . فقال : خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم . فأسلم ففرض له ألفين وأنزله المدينة . ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضا .
قلت : وقد حسن إسلام الهرمزان ، وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر ، فاتهمه بعض الناس بممالأة أبي لؤلؤة هو وجفينة ، فقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة ، على ما سيأتي تفصيله .
وقد روينا أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال : لا إله إلا الله وأما جفينة فصلب على وجهه .
والمقصود أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم ؛ خوفا عليهم من العجم ، حتى أشار عليه بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات ، فإن الملك الأحنف بن قيس لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين ، وإن لم يستأصل ساق العجم وإلا طمعوا في الإسلام [ ص: 65 ] وأهله ، فاستحسن يزدجرد عمر ذلك منه وصوبه ، وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم ، ففتحوا بسبب ذلك شيئا كثيرا ، ولله الحمد . وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة ، كما سيأتي بيانه فيها .
ثم نعود إلى فتح السوس وجنديسابور وفتح نهاوند في قول سيف ، كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الأمراء من تستر إلى السوس فنازلها حينا ، وقتل من الفريقين خلق كثير ، فأشرف عليه علماء أهلها فقالوا : يا معشر المسلمين ، لا تتعبوا في حصار هذا البلد فإنا نأثر فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال أو قوم معهم الدجال . واتفق أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صياد ، فأرسله أبو موسى في من يحاصر ، فجاء إلى الباب فدقه برجله ، فتقطعت السلاسل ، وتكسرت الأغلاق ، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان ودعوا إلى الصلح ، فأجابوهم إلى ذلك ، وكان على السوس شهريار أخو الهرمزان ، فاستحوذ المسلمون على السوس ، وهو بلد قديم العمارة في الأرض ، يقال : إنه أول بلد وضع على وجه الأرض . والله أعلم .
وذكر ابن جرير أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس ، وأن أبا موسى لما أقام [ ص: 66 ] بها بعد مضي أبي سبرة إلى جنديسابور ، كتب إلى عمر في أمره ، فكتب إليه أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ، ففعل . وقد بسطنا ذلك في " سيرة عمر " ولله الحمد .
قال ابن جرير وقال بعضهم : إن فتح السوس ورامهرمز وتسيير الهرمزان من تستر إلى عمر ، في سنة عشرين . والله أعلم .
وكان الكتاب العمري قد ورد بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند فسار إليها فمر بماة - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها . ولله الحمد
قلت : المشهور أن نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين ، كما سيأتي فيها بيان ذلك ، وهي وقعة عظيمة ، وفتح كبير ، وخبر غريب ، ونبأ عجيب . فتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جنديسابور ، فاستوسقت تلك البلاد للمسلمين . هذا وقد تحول وفتح من بلد إلى بلد ، حتى انتهى أمره إلى الإقامة يزدجرد بأصبهان ، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبا من ثلاثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له : سياه . فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى بلد ، حتى فتح المسلمون تستر وإصطخر ، فقال سياه لأصحابه : إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الأقدمين ، ولا يلقون جندا إلا كسروه ، والله ما هذا عن باطل . ودخل في قلبه الإسلام وعظمته ، فقالوا له : نحن تبع لك . وبعث عمار بن [ ص: 67 ] ياسر في غبون ذلك يدعوهم إلى الله ، فأرسلوا إلى بإسلامهم ، وكتب فيهم إلى أبي موسى الأشعري عمر في ذلك ، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين ، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة ، وحسن إسلامهم . وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم ، حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنا فامتنع عليهم ، فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن وضمخ ثيابه بدم ، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم ، ففتحوا له باب الحصن ليؤووه ، فثار إلى البواب فقتله ، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن ، وقتلوا من فيه من المجوس . إلى غير ذلك من الأمور العجيبة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وذكر ابن جرير أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكثيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو الفرس والتوسع في بلادهم ، كما أشار عليه بذلك فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها ، كما سنبينه وننبه عليه . ولله الحمد والمنة . الأحنف بن قيس ،
قال : عمر بن الخطاب ثم ذكر نوابه على البلاد ، وهم من ذكر في السنة قبلها غير وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين المغيرة ، فإن على البصرة بدله أبا موسى الأشعري
قلت : وقد توفي في هذه السنة أقوام ، قيل : إنهم توفوا قبلها . وقد ذكرناهم . وقيل : فيما بعدها . وسيأتي ذكرهم في أماكنهم . والله تعالى أعلم .