[ ص: 34 ] ثم دخلت سنة سبع عشرة
في المحرم منها من سعد بن أبي وقاص المدائن إلى الكوفة ; وذلك أن الصحابة استوخموا انتقل المدائن ، وتغيرت ألوانهم ، وضعفت أبدانهم ; لكثرة ذبابها وغبارها ، فكتب سعد إلى عمر في ذلك ، فكتب عمر : إن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها . فبعث سعد حذيفة وسلمان يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح لإقامتهم ، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء ، فأعجبتهما ، ووجدا هنالك ثلاث ديرات : دير حرقة بنت النعمان ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة . وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة . فنزلا فصليا هنالك ، وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماء وما أظلت ، ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرت ، والنجوم وما هوت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات . ثم كتبا إلى سعد بالخبر ، فأمر سعد باختطاط الكوفة وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها ، فكان أول بناء وضع فيها المسجد . وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي ، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات ، فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم ، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للإمارة وبيت [ ص: 35 ] المال ، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب فاحترقت في أثناء السنة ، فبنوها باللبن عن أمر عمر ، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد . وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل فقدموا عليه ، فأنزلهم الكوفة وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها بأن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا ، ولما دون ذلك ثلاثين أو عشرين ذراعا ، وللأزقة سبعة أذرع . وبني لسعد قصر قريب من السوق ، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث ، فكان يغلق بابه ، ويقول : سكن الصويت . فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة ، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطبا ويحرق باب القصر ، ثم يرجع من فوره . فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر ، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه عن الناس ، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه ، فامتثل ذلك سعد ، وعرض على محمد بن مسلمة شيئا من المال فامتنع من قبوله ، ورجع إلى المدينة . واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصفا ، حتى عزله عنها عمر ، من غير عجز ولا خيانة .