وكان سبب ذلك أن الحجاج كتب إلى نائبه على البصرة ; الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل ، وهو زوج ابنة الحجاج ، يأمره أن يجهز جيشا أربعة آلاف يتطلبون شبيبا ، ويكونون تبعا لسفيان بن الأبرد ، ففعل فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، وصبر كل من الفريقين لصاحبه ، ثم عزم أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج ، ففروا بين أيديهم ذاهبين حتى اضطروهم إلى جسر هناك ، فوقف عنده شبيب في مائة من أصحابه ، وعجز سفيان بن الأبرد عن مقاومته ، ورده عن موقفه هذا بعدما تقاتلوا نهارا كاملا أشد قتال يكون ، ثم أمر سفيان بن الأبرد الرماة من أصحابه فرشقوهم بالنبل رشقا واحدا ، ففرت الخوارج ، ثم كرت على الرماة ، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثين رجلا ، [ ص: 275 ] من أصحاب ابن الأبرد ، وجاء الليل بظلامه ، فكف الناس بعضهم عن بعض ، وبات كل من الفريقين مصرا على مناهضة الآخر ، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على الجسر ، فبينما شبيب على متن الجسر ، وهو على حصان له وبين يديه فرس أنثى ، فنزا فرسه وهو على الجسر ، ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء ، فقال : ليقضي الله أمرا كان مفعولا . ثم انغمر في الماء ، ثم ارتفع وهو يقول : ذلك تقدير العزيز العليم فغرق .
ولما تحققت الخوارج سقوطه في الماء كروا ، وانصرفوا ذاهبين مفرقين في البلاد ، وجاء أمير جيش الحجاج ، فاستخرج شبيبا من الماء ، وعليه درعه ، ثم أمر به فشق صدره ، فاستخرج قلبه ، فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة ، وكانوا يضربون به الأرض فيثب قامة الإنسان ، وقيل : إنه كان معه رجال قد أبغضوه لما أصاب من عشائرهم ، فلما تخلف في الساقة اشتوروا وقالوا : نقطع الجسر به . ففعلوا ذلك ، فمالت السفن بالجسر ، ونفر فرسه ، فسقط في الماء فغرق ، فنادوا : غرق أمير المؤمنين . فعرف جيش الحجاج ذلك فجاءوا فاستخرجوه .
ولما نعي شبيب إلى أمه ، قالت : صدقتم ، إني كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج مني شهاب من نار ، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء .
وكانت أمه جارية اسمها جهيزة ، وكانت جميلة ، وكانت من أشجع [ ص: 276 ] النساء ، تقاتل مع ابنها في الحروب .
وذكر القاضي ابن خلكان أنها قتلت في هذه الغزوة ، وكذلك قتلت زوجته غزالة . وكانت شديدة البأس خارجية ، وكان الحجاج مع هيبته يخاف منها أشد خوف ، حتى قال فيه بعض الشعراء :
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
قال : وقد كان شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل بن مرة بن ذهل بن شيبان الشيباني - يدعي الخلافة ، ويتسمى بأمير المؤمنين ، ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله ، ولما قدر عليه أحد ، وإنما قهره الله على يدي الحجاج ، لما أرسل إليه أمير المؤمنين عبد الملك بعساكر لقتاله ، فهرب غير مرة ، ولما ألقاه جواده على الجسر في نهر دجيل قال له رجل : أغرقا يا أمير المؤمنين ؟ [ ص: 277 ] قال : ذلك تقدير العزيز العليم قال : ثم أخرج ، وحمل إلى الحجاج ، فأمر فنزع قلبه من صدره ، فإذا هو مثل الحجر .
وكان شبيب رجلا طويلا أشمط جعدا ، وكان مولده في يوم عيد النحر سنة ست وعشرين ، وقد أمسك رجل من أصحابه ، فحمل إلى ، فقال له : ألست القائل : عبد الملك بن مروان
فإن يك منكم كان مروان وابنه وعمرو ومنكم هاشم ، و حبيب
فمنا حصين ، و البطين وقعنب ومنا أمير المؤمنين شبيب
وفي هذه السنة كانت حروب كثيرة جدا بين نائب المهلب بن أبي صفرة الحجاج ، وبين الخوارج من الأزارقة ، وأميرهم قطري بن الفجاءة ، وكان أيضا من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين ، وقد تفرق عنه أصحابه ، ونفروا في هذه السنة ، وأما هو فشرد في الأرض لا يدرى أين ذهب ، وقد جرت بينهم مناوشات ومجاولات يطول بسطها واستقصاؤها ، وقد بالغ ابن جرير في ذكرها .
قال : وفي هذه السنة ثار بكير بن وشاح الذي كان نائب خراسان ، على [ ص: 278 ] نائبها - كما سيأتي - وذلك أن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بكيرا استجاش عليه الناس ، وغدر به وقتله ، وقد جرت بينهما خطوب طويلة ، قد استقصاها أبو جعفر - رحمه الله - في تاريخه .
وفي هذه السنة كانت وفاة - كما قدمنا - وقد كان من الشجاعة والفروسية على جانب كبير ، لم أر بعد الصحابة مثله ، ومثل شبيب بن يزيد الخارجي الأشتر وابنه إبراهيم ، وأخيه ومصعب بن الزبير عبد الله ، وممن يناط بهؤلاء في الشجاعة ; مثل قطري بن الفجاءة من الأزارقة الخوارج ، والله أعلم .