وقرأ الجمهور " نتلوها " بالنون على سبيل الالتفات ؛ لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف . وقرأ أبو نهيك بالياء . والأحسن أن يكون الضمير المرفوع في " نتلوها " في هذه القراءة عائد على الله ، ليتحد الضمير . وليس فيه التفات ؛ لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب . ومعنى التلاوة : القراءة شيئا بعد شيء ، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريل لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى . وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها : ينزلها متوالية شيئا بعد شيء . وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائدا على جبريل ، وإن لم يجر له ذكر للعلم به .
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق . وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب [ ص: 27 ] آخرين . وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره ، ونتلوها جملة حالية . قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة . وجوزوا أن يكون آيات الله بدلا ، والخبر نتلوها . وقال : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله . انتهى . فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية . ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف ؛ إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه . والباء في " بالحق " باء المصاحبة ، فهي في موضع الحال من ضمير المفعول ، أي : ملتبسة بالحق . وقال الزجاج : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه . انتهى . فدس في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية . ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وإذا لم يرده لم يقع منه لأحد . فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه . روى الزمخشري أبو ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : " " . وفي الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . وقيل : المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل . انتهى . إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر ، التقدير : ظلمه ، والعائد هو ضمير الله تعالى أي : ليس الله مريدا أن يظلم أحدا من العالمين . ونكر ظلما ؛ لأنه في سياق النفي ، فهو يعم . وقيل : المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض . واللفظ ينبو عن هذا المعنى ؛ إذ لو كان هذا المعنى مرادا لكان " من " أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما الله يريد ظلما من العالمين . وقال : وما الله يريد ظلما فيأخذ أحدا بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرضا بها . انتهى كلامه جاريا على مذهبه الاعتزالي . ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وأن إرادة العبد تغلب إرادة الرب ، تعالى الله عن ذلك . الزمخشري
( ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ) لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به ، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أن هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا اعتراض عليه تعالى . ودلت الآية على اتساع ملكه ، ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني عن الظلم ؛ لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصا به عن الظالم . وتقدم شرح هاتين الجملتين ، فأغنى ذلك عن إعادته .
قالوا : وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ( تبيض ) ( وتسود ) ، وفي اسودت وابيضت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلما . والتفصيل : في فأما وأما . والتجنيس المماثل في : أكفرتم وتكفرون . وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون . والتكرار في لفظ الله ، ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ؛ لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير :
لا أرى الموت يسبق الموت شـيء
لاتحاد الجملة . لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصدا للتفخيم . والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في : ( تبيض ) ( وتسود ) ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة . والحذف في مواضع .