الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ؛ فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين . والمعنى : فأسهموا لنا بحكم أننا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ; أي نيل من المؤمنين ، قالوا : ألم نستحوذ عليكم ; أي ألم نغلبكم ، ونتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فأسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ولا نترك أحدا يؤذيكم . قيل المعنى أن الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام ، فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم ؛ فأسهموا لنا . وقيل المعنى ألم نخبركم بأمر محمد وأصحابه ، ونطلعكم على سرهم ؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم ؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف . وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحا عظيما لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيبا ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيرا لهم ، وتخسيسا لما نالوه من المؤمنين ; لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء ، كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم :


فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب

وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه . وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين ؟ ونظيره قول الحطيئة :


ألم أك جاركم ويكون بيني     وبينكم المودة والإخاء

وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف ، انتهى . يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين . وقرأ أبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى أما استحوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : [ ص: 376 ] ( ألم نشرح لك صدرك ووضعنا ) . إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا .

( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) أي وبينهم وينصفكم من جميعهم . ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجمع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب . وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به .

( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) يعني يوم القيامة ؛ قاله : علي وابن عباس . وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند علي فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ؟ فقال علي : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة . وقيل : إنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان ، قال : فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا .

وقيل : المعنى أن لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ؛ فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) . قال ابن العربي : وهذا بين جدا ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضا . وذلك أن " حتى " غاية فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضا ، وسبي بعضهم لبعض . وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله .

وقيل : سبيلا من جهة الشرع ؛ فإن وجد فبخلاف الشرع . وقيل : ( سبيلا ) حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت . وقيل : سبيلا أي ظهورا ؛ قاله : الكلبي . ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل .

وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنون التجنيس المغاير في : أن يصلحا بينهما صلحا ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالا ، وفي : ( كفروا ) و ( كفروا ) . والتجنيس المماثل في : ( ويستفتونك ) و ( يفتيكم ) ، وفي : ( صلحا ) و ( الصلح ) ، وفي : ( جامع ) و ( جميعا ) . والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين . والتشبيه في : كالمعلقة . واللفظ المحتمل للضدين في : وترغبون أن تنكحوهن . والاستعارة في : نشوزا ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلا . وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني . والطباق في : غنيا أو فقيرا ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين . والاختصاص في : بما تعملون خبيرا خص العمل . والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين . والحذف في مواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية