الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان ، قاله ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين . وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين .

روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في ألف وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف ، ووعدهم الفتح إن صبروا . ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس . وسبب انخذاله أنه أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين شاوره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني ، وقال : يا قوم ، علام نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري - وفي رواية : أبو جابر السلمي - فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم ، فقال عبد الله : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ، ومضوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا الهم غير مؤاخذ به ؛ إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم . ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر - يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر ، ألا ترى إلى قول الشاعر :


وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي



وإذ همت : بدل من " إذ غدوت " . قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى " سميع عليم " . انتهى . وهذا غير محرر ؛ لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع . وجوز أن يكون معمولا لـ " تبوئ " ، ولـ " غدوت " . و " هم " يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال . وما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل :


قاتلوا القوم بالخداع ولا     يأخذكم عن قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر     في الرأس لا ينشرون إن قتلوا



وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في " عقد اللآلي في القراءات السبع [ ص: 47 ] العوالي " من إنشائنا . والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل . وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي . وفي قوله : " طائفتان " إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ؛ إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صرح بمن هما منه من القبائل ؛ سترا عليهما .

( والله وليهما ) معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا . وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته . وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ) قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة . وما نحب أنها لم تنزل ؛ لقول الله : ( والله وليهما ) ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزما كانت سببا لنزولها . وقرأ عبد الله : والله " وليهم " ، أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ( هذان خصمان اختصموا ) وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين .

( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومن كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه . أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك . ونبه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ؛ لأن من آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ؛ ولذلك قال : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) وأتى به عاما لتندرج الطائفتان الهامتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقه من قام به الإيمان . وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسير معه .

التالي السابق


الخدمات العلمية