( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) هذا استمرار في عتبهم آخر ، أن محمدا رسول كمن مضى من الرسل ، بلغ عن الله كما بلغوا . وليس بقاء الرسل شرطا في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم . فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد .
وقرأ الجمهور " الرسل " بالتعريف ، على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله . وفي مصحف عبد الله " رسل " بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس وقحطان بن عبد الله . ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك . وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه : ( وقليل من عبادي الشكور ) ( وما آمن معه إلا قليل ) إلى غير ذلك . ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك .
( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) لما صرخ بأن محمدا قد قتل ، تزلزلت أقدام المؤمنين ، ورعبت قلوبهم ، وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر . وفرقة قالوا : نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا . وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم الأول ، فلو كان محمد نبيا ما قتل .
وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد . وقيل : هو بالفرار لا الارتداد . وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : " لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار . والفاء للعطف ، وأصلها التقديم ؛ إذ التقدير : فــأإن مات . لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدمونه على حرف العطف ، وقد تقدم لنا مثل هذا وخلاف فيه . وقال الزمخشري الخطيب كمال الدين الزملكاني : الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه . ولو صرح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم . انتهى . وهذه نزعة زمخشرية . وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك . وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه . وجزاؤه هو " انقلبتم " ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئا من أحكام الشرط وجزائه . فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأتني آتك . وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبنى على أداة الاستفهام ، فينوى به التقديم ولا بد ، إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضيا ؛ لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك . التقدير فيه : أكرمك إن أكرمتني ، ولا يجوز عنده : إن تكرمني [ ص: 69 ] أكرمك بجزمهما أصلا ، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر . والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو . فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ، وهو ماض معناه الاستقبال ؛ لأنه مقيد بالموت أو بالقتل . وجواب الشرط عند يونس محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد . ودخلت إن هنا على المحقق وليس من مظانها ؛ لأنه أورد مورد المشكوك فيه ؛ للتردد بين الموت والقتل ، وتجويز قتله عند أكثر المخاطبين . ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل ؟ قال بعضهم : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه . وقال بعضهم : إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل . فأما العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها .
( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) أي من رجع إلى الكفر أو ارتد فارا عن القتال وعن ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين . وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أن كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى ؛ لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد . ولم تقع ردة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين .
وقرأ الجمهور " على عقبيه " بالتثنية . وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ، وانتصاب شيئا على المصدر أي : شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا . والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه . وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد .
( وسيجزي الله الشاكرين ) وعد عظيم بالجزاء . وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم . والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا الله فيما وعدوه ، وثبتوا ، شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، ، وسعد بن الربيع والأنصاري الذي كان يتشحط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم .
والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلا وقولا . وقد تقدم الكلام على الشكر . وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة . وقيل : في الدنيا بالرزق والتمكين في الأرض . وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم ، قاله علي . وقال هو : والحسن بن أبي الحسن أبو بكر أمير الشاكرين ، يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام . وفسر أيضا بالطائعين .