واللام في " لإخوانهم " لام السبب ، أي لأجل إخوانهم ، وليست لام التبليغ نحو : قلت لك . والأخوة هنا أخوة النسب ؛ إذ كان قتلى أحد من الأنصار ، وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة . وقيل : خمسة . ويكون القائلون منافقي الأنصار ، جمعهم أب قريب أو بعيد ، أو أخوة المعتقد والتآلف ، كقوله : ( فأصبحتم بنعمته إخوانا ) وقال :
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان
والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان . وقال : الضرب هنا السير في التجارة . وقال السدي : السير في الطاعات . ابن إسحاقوإذا ظرف لما يستقبل ، و " قالوا " ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه . فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فأعمل فيه قال . وقال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان . قال : ( فإن قلت ) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا ؟ ( قلت ) : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض . انتهى كلامه . ويمكن إقرار " إذا " على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بد من تقدير مضاف غاية ما فيه أنا نقدره مستقبلا حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكن يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : ( الزمخشري وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ) وقول العرب : عندي درهم ونصفه . وقول الشاعر :
[ ص: 93 ]
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا ونصفه فقد
المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظا لا معنى . كذلك الضمير في قوله : " لو كانوا " ، يعود على إخوانهم لفظا . والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون . ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا - أي مقيمين لم يسافروا - ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاما لهم أن يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ، ويكون العامل في إذا هلاك ، وهو مصدر ينحل بأن والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزا . وهذا أبلغ في المعنى ؛ إذ عرضوا للأحياء بالإقامة ؛ لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل . قالوا : ويجوز أن يكون وقالوا في معنى ويقولون ، وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ ، فيبقى وقالوا على مضيه . وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزا فقتلوا . وما أجهل من يدعي أنه لولا الضرب في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول :
يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت نشيبة والطراق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت إليه المنايا عينها ورسولها
قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ؛ لأن من الغزو ما لا يكون ضربا ؛ لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب . انتهى . يعني أن بينهما عموما وخصوصا فتغايرا ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته . وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) .
وقرأ الجمهور غزى بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن بتخفيف الزاي . ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفا ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة . وقال بعض من وجه على أنه حذف التاء وهو : والزهري ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح : الكسائي
أبى الذم أخلاق وانتحى به المجد أخلاق الأبو السوابق الكسائي
يريد الأبوة ، جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوة جمع ابن . وقد قالوا : ابن وبنو . انتهى . وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة . وإن أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعى إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول : إن الحذف - أعني حذف التاء - كثير في كلامهم ؛ لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيرا وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : إنه حذفت منه التاء كثيرا لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة ، فإن الجمع بني عليها ، وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إن ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لما رأوا زائدا لا معنى له ذكروا أنه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد . وأما البيت فالذي يقوله النحويون فيه : إنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبى ، كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوة . ولا يجمع ابن على بنوة ، وإنما هما مصدران ، والجملة من لو [ ص: 94 ] وجوابها هي معمول القول ، فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو . والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله الجمهور . أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة . قاله . وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء . وقرأ بكر بن سهل الدمياطي الحسن بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ؛ لأنه لا يمكن التكثير فيه .
( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) اختلفوا في هذه اللام ، فقيل : هي لام كي . وقيل : لام الصيرورة . فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ؟ ولماذا يشار بذلك ؟ فذهب بعضهم إلى أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم . وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف ؛ لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي ، يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلا لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطا للمؤمنين عن الجهاد . ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا ؛ لأن جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم لا يكون سببا لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار .
قال : وقد أورد سؤالا على ما تتعلق به " ليجعل " ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم . انتهى كلامه . وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ؛ لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي كما قلنا ، إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي ، وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه . فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة . وقال الزمخشري ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم . انتهى . ومنه أخذ قوله : لكن الزمخشري ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص . وقد بينا فساد هذا القول .
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك . وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى ، أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل ، وينسبون هذا المذهب للأخفش . وأما الإشارة [ ص: 95 ] بذلك فقال : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشد . وقال الزجاج ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول . وقال الزمخشري ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ؛ لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف . انتهى . وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه . وقيل : الإشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ؛ لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم . وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا ، فتأمله . انتهى .
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر . والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من " قالوا " ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم ، أي غما على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد . وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا ، وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم . وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة . وأسند الجعل إلى الله ؛ لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد .
( والله يحيي ويميت ) رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده ، قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد . وقال عند موته : ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء . وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : ( خالد بن الوليد ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا ) أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت ، من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله الرازي ، وقال أيضا : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ؛ لأن قضاءه لا يتبدل . ولا يلزم ذلك في الأعمال ؛ لأن له أن يفعل ما يشاء . انتهى . ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ؛ لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بد من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذا لا فرق .
( والله بما تعملون بصير ) قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإن كان الصادر منهم قولا مسموعا لا فعلا مرئيا ، لما كان ذلك القول من الكافر قصدا منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك ، كقولك لمن يقول شيئا وهو يقصد فعلا يحاوله : أنا أرى ما تفعله . وقرأ ابن كثير والأخوان " بما يعملون " بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين . وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ، ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل .