( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) : هذا التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة إلى الخطاب . ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أن ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء . وأنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي بدر وأحد ، فبمشيئته . وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار . ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ؛ لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان . وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه .
والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال : " قيدها وتوكل " ونظير هذه الآية : ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) والضمير في " من بعده " عائد على الله تعالى ، إما على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر . وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك ؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على المصدر المفهوم من قوله : " وإن يخذلكم " ، أي : من بعد الخذلان . وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب " وإن يخذلكم " يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر . لكن فرق بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : ( أهلكناهم فلا ناصر لهم ) وظاهر النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه . وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة . فقالوا : المعنى إن حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل . وفي قوله : " إن ينصركم الله " إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ؛ لأنه بين فيما تقدم أن من اتقى الله نصره .
وقال في قوله : " وعلى الله " ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه علمهم أنه لا ناصر سواه ؛ ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه . انتهى كلامه . وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور ، وذلك على طريقته بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص . وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل . وقرأ الزمخشري : يخذلكم من أخذل رباعيا . والهمزة فيه للجعل أي : يجعلكم . عبيد بن عمير
[ ص: 101 ] ( وما كان لنبي أن يغل ) قال ، ابن عباس وعكرمة ، : فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم وابن جبير بدر ، فقال بعض من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، فنزلت ، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجا . وقيل : منافق ، وروي أن المفقود سيف . وقال النقاش : قالت الرماة يوم أحد : الغنيمة الغنيمة ، أيها الناس إنا نخشى أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أخذ شيئا فهو له ، فلما ذكروا ذلك قال : " خشيتم أن نغل " فنزلت . وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل . وقيل غير هذا ، من ذلك ما قال : إنما نزلت إعلاما بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه . ابن إسحاق
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث إنها تضمنت حكما من أحكام الغنائم في الجهاد ، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم ، فحذرهم من ذلك . وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل . وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم " أن يغل " من غل مبنيا للفاعل ، والمعنى : أنه لا يمكن ذلك منه ، لأن الغلول معصية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من المعاصي ، فلا يمكن أن يقع في شيء منها . وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوهم فيه ذلك ، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك . وقرأ وباقي السبعة : " أن يغل " بضم الياء وفتح الغين مبنيا للمفعول . فقال الجمهور : هو من غل . والمعنى : ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة ، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر وإن كان ذلك حراما مع غيره ؛ لأن المعصية بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أشنع لما يجب من تعظيمه وتوقيره ، كالمعصية بالمكان الشريف ، واليوم المعظم . وقيل : هو من أغل رباعيا ، والمعنى : أنه يوجد غالا كما تقول : أحمد الرجل : وجد محمودا . وقال ابن مسعود أبو علي الفارسي : هو من أغل ، أي نسب إلى الغلول . وقيل له : غللت كقولهم : أكفر الرجل ، نسب إلى الكفر .
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) : ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل ، ورد ذلك في صحيح البخاري ومسلم . ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره ، ثم قال : " " الحديث . وكذلك ما جاء في حديث لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : ما أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك ابن اللتبية : " " . وروي عنه أيضا : " والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر وفرس له حمحمة " . وفي حديث مدعم : " حنين لتشتعل عليه نارا ، ومجيئه بما غل فضيحة له على رءوس الأشهاد يوم القيامة " . وقال إن الشملة التي غلت من المغانم يوم الكلبي : يمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره ، فإذا بلغ صومعته وقع في النار ، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه ، يفعل ذلك به . وقيل : يأتي حاملا إثم ما غل . وقيل : يؤخذ من حسناته عوض ما غل . وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه .
( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) : هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية ، لما ذكر من مسألة الغلول ، وما يجري لصاحبها يوم القيامة ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصا بمن غل ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكورا مرتين : مرة بخصوصه ، ومرة باندراجه في هذا العام ؛ ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسب من غير الغلول . وتقدم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته هنا .