( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الفريقين : [ ص: 103 ] فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملا من غير تفصيل ، فصل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليا لآيات الله ، ومبينا لهم طريق الهدى ، ومطهرا لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها . وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة . ثم فصل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى .
ومعنى " من " : تطول وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه . فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم . فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أن ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة . ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي .
وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ؛ لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا له فيهم نسب من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب ؛ لنصرانيتهم . قاله النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفا لهم على سائر الأمم .
ويكون معنى " من أنفسهم " : أي من جنسهم عربيا مثلهم . وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده . قال ابن عباس وقتادة : قال " من أنفسهم " لكونه معروف النسب فيهم ، معروفا بالأمانة والصدق . قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان . وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم . انتهى .
والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذ كان اللسان واحدا ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه . وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به . وقرئ شاذا : لمن من الله على المؤمنين [ ص: 104 ] بمن الجارة و " من " مجرور بها بدل " قد من " . قال : وفيه وجهان : أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة . أو يكون " إذ " في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما ، بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه . انتهى . الزمخشري
أما الوجه الأول فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ) ( وما منا إلا له مقام ) ( ومنا دون ذلك ) على قول . وأما الوجه الثاني فهو فاسد ؛ لأنه جعل " إذ " مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفا أو مضافا إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول . أما أن تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت ، تريد وقت قيام زيد طويل . وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين . انتهى كلامه . وأما قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ؛ لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ . إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك . وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع . فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبرا في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا . وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، فهذا في غاية الفساد ؛ لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري . ونص أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أن هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده . وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو .
وقرأ الجمهور : " من أنفسهم " بضم الفاء ، جمع نفس . وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : " من أنفسهم " بفتح الفاء من النفاسة والشيء النفيس . وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وروى علي عنه - عليه السلام - : " أنا من أنفسكم نسبا وحسبا وصهرا ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح ، كلها نكاح والحمد لله " .
قيل : والمعنى من أشرفهم ؛ لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريشا ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد - صلى الله عليه وسلم - . وفيما خطب به أبو طالب في تزويج رضي الله عنها وقد حضر معه خديجة بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضئ معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا ، وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل . وقال : ما خلق الله نفسا هي أكرم على الله من ابن عباس محمد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : " لعمرك " .
( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) : تقدم تفسير هذه الجمل .
( وإن كانوا من قبل ) : أي من قبل بعثه .
( لفي ضلال ) : [ ص: 105 ] أي حيرة واضحة فهداهم به . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم الكلام عليها وعلى اللام في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) والخلاف في ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا . وقال : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين . انتهى . وقال الزمخشري : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين . وأما مكي فإنه قال : إن مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين . فظهر من كلام سيبويه أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث ، ومن كلام الزمخشري أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف . نحويا ذهب إليه . إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان ، أحدهما : جواز الإعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر . ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب . والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر ، لا ملفوظ به ولا مقدر ألبتة . فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر ، فنقول : إن زيد لقائم ، ومدلوله مدلول إن زيدا قائم . وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء . وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم . والجملة من قوله : " وإن كانوا " حالية . والظاهر أن العامل فيها هو : " ويعلمهم " ، فهو حال من المفعول . مكي