وقرأ الجمهور : " ولا تحسبن " بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع . وقال : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . وقرأ الزمخشري حميد بن قيس ، وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي : ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد . قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس . انتهى .
قال : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا . ( فإن قلت ) : كيف جاز حذف المفعول الأول ؟ ( قلت ) : هو في الأصل مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء . والمعنى : هم أحياء ؛ لدلالة الكلام عليها . انتهى كلامه . وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، لا يجوز ؛ لأن فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى ، وهي : باب رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلا أكرمته . وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلا زيد ، على مذهب البصريين . وباب التنازع ، على مذهب الزمخشري ، في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق . وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبرا للضمير ، وجعل منه قوله تعالى : ( سيبويه وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ) التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا . وهذا الذي قدره ليس واحدا من هذه الأماكن المذكورة . وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصارا ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جدا . قال الزمخشري أبو علي الفارسي : حذفه عزيز جدا ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح . انتهى قول أبي علي . وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصارا ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو . وما كان بهذه المثابة ممنوعا عند بعضهم عزيزا حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى . فتأويل من تأول الفاعل مضمرا يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو ، أي أحد ، أو حاسب أولى . وتتفق القراءتان في كون الفاعل ضميرا ، وإن اختلفت بالخطاب والغيبة .
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء [ ص: 113 ] وحياتهم في قوله : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ) فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ الحسن وابن عامر " قتلوا " بالتشديد . وروي عن عاصم : " قاتلوا " . وقرأ الجمهور : " قتلوا " مخففا . وقرأ الجمهور : " بل أحياء " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء . وقرأ : أحياء بالنصب . قال ابن أبي عبلة : على معنى بل احسبهم أحياء . انتهى . وتبع في إضمار هذا الفعل الزمخشري ، قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل احسبهم أحياء . ورده عليه الزجاج أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ؛ لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة . فوجه قراءة أن يضمر فعلا غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ؛ إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر . انتهى كلام ابن أبي عبلة أبي علي . وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أن المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين . وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل . ومن ذلك في حسب قول الشاعر :
حسبت التقى والحمد خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
وقول الآخر :
شهدت وفاتوني وكنت حسبتني فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي
فلو قدر بعد : بل احسبهم بمعنى اعلمهم ، لصح ؛ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ " ولا تحسبن " ، لاختلاف مدلوليهما . وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر . وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة - غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ . وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح ألبتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو ألقهم . وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر . إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيث المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى أعتقدهم ، وهذا على تسليم أن حسب لا يذهب بها مذهب العلم .
ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان . قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ؛ لأن عند تقتضي غاية القرب ؛ ولذلك يصغر . قاله . انتهى . ويحتمل عند ربهم أن يكون خبرا ثانيا ، وصفة ، وحالا . وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبرا ثالثا ، وأن يكون صفة ثانية . وقدم صفة الظرف على صفة الجملة ؛ لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المجرور على الجملة إذا كانا وصفين ؛ ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق . وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف . سيبويه
قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة . ولا محالة أنهم ماتوا ، وأن أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين . وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم . فقوله : " بل أحياء " مقدمة لقوله : " يرزقون " ؛ إذ لا يرزق إلا حي . وهذا كما يقول لمن ذم رجلا : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل . انتهى ما قاله ابن عطية . ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركا فيها الشهيد والمؤمنون ؛ لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدما على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية ، فاستفيد أولا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين . وأيضا ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو كون الشهداء أمواتا . والبعد [ ص: 114 ] عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال ، فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الإخبار أن يكون من أسندت إليه متصفا بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه .