الحظ : [ ص: 116 ] النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير . ماز وميز : فصل الشيء من الشيء . قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد . انتهى . والتضعيف ليس للنقل . وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد ، فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز . انتهى . ويعني : ولم تقولوه مسموعا ، وأما بطريق القياس فيقال . وقيل : لا يكون ماز إلا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ؛ ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء . اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه ، فيحتمل أن تكون اللام واوا أو ياء .
( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) : كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بيانا لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله . قال : وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله : ( الزمخشري أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم . وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : " يستبشرون " ، ثم بين بقوله وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال . انتهى .
وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف . ومن ذهب إلى أن الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها - فبعيد عن الصواب ؛ لأن الظاهر اختلاف المنفي عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد . والظاهر أن قوله : " يستبشرون " ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم . فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد ؛ لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة الله عليهم وفضله . وفي التنكير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيما لأمره وتنبيها على صعوبة إدراكه ، كما جاء : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل ؛ لقرينة قوله : أحسنوا ، وقوله : ( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) .
وقال : النعمة هي الجزاء ، والفضل زائد عليه قدر الجزاء . وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة . وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا . وقرأ الزجاج وجماعة : و " إن الله " بكسر الهمزة على الاستئناف ، ويؤيده قراءة الكسائي عبد الله ومصحفه : " والله لا يضيع أجر " . وقال : وعلى أن الجملة اعتراض ، وهي قراءة الزمخشري . انتهى . وليست الجملة هنا اعتراضا ؛ لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار . وقرأ باقي السبعة والجمهور بفتح الهمزة عطفا على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه . قال الكسائي أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ؛ لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه . ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ؛ لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصح معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ؛ لأنهم كانوا على وجل من ذلك . انتهى كلامه . وفيه [ ص: 117 ] تطويل شبيه بالخطابة . قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلته عند الله .
( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) : قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحد . استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون . وذلك لما ذكر للرسول أن أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة ، فنزلت . قاله . وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع . وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة عمرو بن دينار أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فأرعب ، وبدا له الرجوع ، وقال لنعيم بن مسعود : واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطهم عنا ، وأعلمهم أنا في جمع كثير ، ففعل وخوفهم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان ، فنزلت . قال معناه : مجاهد وعكرمة . وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس باتباع المشركين ، وقال : لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس . وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ، ومرت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة ، فنزلت . وروي أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما ، فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول ، جمع بينهما ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرسول بتلقي الرسالة منه والنصيحة له . والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول . والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب .
والظاهر إعراب " الذين " مبتدأ ، والجملة بعده الخبر . وجوزوا الإتباع نعتا ، أو بدلا ، والقطع إلى الرفع والنصب . ومن في : " منهم " قال : للتبيين ، مثلها في قوله تعالى : ( الزمخشري وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) ؛ لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم . وعن : قالت لي عروة بن الزبير عائشة : إن أبويك لممن استجابوا لله والرسول . تعني : أبا بكر والزبير . انتهى . وقال أبو البقاء : " منهم " حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون " من " للتبعيض ، وهو قول من لا يرى أن " من " تكون لبيان الجنس .
( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) : قيل : أريد بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية . وبالثاني : أبو سفيان . وتقدم ذكر قصة نعيم ، وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أن أبا سفيان جعل له جعلا على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى ، وذلك عشرة من الإبل ، ضمنها له ، فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي " فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فوافى سهيل بن عمرو بدرا الصغرى ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حبسة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا [ ص: 118 ] السويق . وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي عزة الجمحي فقتلهما . فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد وبرد واحد . قاله . وقال أيضا : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه . انتهى . ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيما وحده هو المثبط ؛ لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفردا بالتثبيط . الزمخشري
وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مروا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلا وهو حمل إبلهم زبيبا على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه - وهم إذ ذاك بحمراء الأسد - : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ .
وجوزوا في إعراب " الذين قال " أوجه " الذين " قبله ، والفاعل بـ " زاد " ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من " قال " ، أي : فزادهم ذلك القول إيمانا . وأجاز أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده . وهما ضعيفان ، من حيث إن الأول لا يزيد إيمانا إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه . ومن حيث إن الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد . فيقول : مفارقه شابت ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب . الزمخشري
وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أن ذلك القول زادهم تثبيتا واستعدادا ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : سيزيد وينقص باعتبار الطاعات ؛ لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو مذهب مالك ونسب . وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة . وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد . وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والأخبار في مدة الرسول . وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب للشافعي أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن . وقال الشافعي أبو المعالي في " الإرشاد " : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائما ؛ لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص . وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة . وروي شبهه عن . والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب . ولما تقدم من المثبطين إخبار بأن ابن المبارك قريشا قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه - ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية . فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو إن كافيهم شر الناس هو الله تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : " ونعم الوكيل " ، فدل على أن قولهم : حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى . فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب . وتقدم الكلام في ( حسب ) في قوله : ( فحسبه جهنم ) ومن قولهم : أحسبه الشيء : كفاه . وحسب بمعنى المحسب ، أي الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل . ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك . فتصف به النكرة ، إذ إضافته [ ص: 119 ] غير محضة ؛ لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل . وقال :
وحسبك من غنى شبع وري
أي كافيك . والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمور . قيل : وهذه الحسبلة هي قول إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار . والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل الله . قال : الوكيل الرب . قاله قوم . انتهى . والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو الله . وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور . قال ابن الأنباري الفراء : والوكيل الكفيل .