قيل : نزلت في المنافقين . وقيل : نزلت في قوم ارتدوا . وقيل : المراد كفار قريش . وقيل : رؤساء اليهود . والأولى حمله على العموم كقوله : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) وقيل : مثير الحزن وهو شفقته ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهي عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) وقوله : ( لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ) وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم .
وقرأ نافع : " يحزنك " من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في " لا يحزنهم الفزع الأكبر " ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن . يقال : حزن الرجل ، أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزينا . وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن . قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ؛ لأن من يسارع غيره أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده . وفي ضمن قوله : " إنهم لن يضروا الله شيئا " دلالة على أن وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم . وانتصب شيئا على المصدر ، أي شيئا من الضرر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف الجر أي شيء . ( يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب [ ص: 122 ] عظيم ) : بين تعالى أن ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة . فهذه تسلية منه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في ترك الحرب ؛ لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم . قال : ( فإن قلت ) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظا في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة ؟ ( قلت ) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيها على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم . انتهى . وفيه دسيسة اعتزال ؛ لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة موجبة أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر . ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم . الزمخشري
ونقل الماوردي في " يريد " ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك . والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم . والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم . قاله . ابن إسحاق
( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ) : هذا عام في الكفار كلهم . وقوله : ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) كان عاما ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصا بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريرا على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئا . ويندرج فيه ذلك الخاص أيضا ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعيه من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب . وجعل ذلك اشتراء من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان .
( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) : معنى نملي : نمهل ونمد في العمر . والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار . ويقال : ملاك الله نعمته ، أي منحكها عمرا طويلا ، وقرأ حمزة " تحسبن " بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولا أولا . ولا يجوز أن يكون : " أنما نملي لهم خير " ، في موضع المفعول الثاني ؛ لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا . أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول . وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش : على أن يكون أنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين . قال والزمخشري ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف [ ص: 123 ] لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة . وقال : ( فإن قلت ) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ ( قلت ) : صح ذلك من حيث إن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على " متاعك " . انتهى كلامه وهذا التخريج الذي خرجه الزمخشري ابن الباذش سبقهما إليه والزمخشري الكسائي ، قالا وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم . قال والفراء الفراء : ومثله " هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم " ، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم . انتهى . وقدر بعضهم قول الكسائي فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما . انتهى . والفراء
وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصارا فيما تقدم من قول في قوله : ( الزمخشري ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) إن تقديره : ولا تحسبنهم . وذكرنا هناك أن مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز ، لكنه عزيز جدا بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادرا ، وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه . وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير . قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالا قول الشاعر : الزجاج
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : " أنما نملي " بدل ، " وخيرا " : المفعول الثاني أي إملاءنا خيرا . وأنكر هذه القراءة التي حكاها أبو بكر بن مجاهد ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد . الزجاج وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه .
وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر ؛ لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، أنما نملي لهم خير لأنفسهم . انتهى . وعلى مقالة الأخفش يكون " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " في موضع المفعول الثاني ، و " أنما نملي لهم خير " مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم . وجاز الابتداء بأن المفتوحة ؛ لأن مذهب الأخفش جواز ذلك . ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردوها . وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون " إن وما " دخلت عليه في موضع المفعول الثاني . وقال في ( مشكله ) : ما علمت أحدا قرأ " تحسبن " بالتاء من فوق وكسر الألف من إنما . وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبن بالياء ، وإعراب هذه القراءة ظاهر ؛ لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدت " مكي أنما نملي لهم خير " مسد مفعولي يحسبن كما تقول : حسبت أن زيدا قائم . وتحتمل " ما " في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي عليه ، وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلا معمولا لفعل تام متعينا للربط ، أو أن إملاءنا خير . وجوز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد .
وقرأ : " ولا يحسبن " بالياء ، و " إنما نملي " بالكسر . فإن كان الفعل مسندا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني . وإن كان مسندا للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين . فلو كانت " أنما " مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيـى بن وثاب يحيـى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق ، فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها . والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ [ ص: 124 ] كقوله :
إنـي وجـدت ملاك الشيمـة الأدب
أي : لملاك الشيمة الأدب ، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب . وحكى أن الزمخشري قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية . ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان . والجملة من " أنما نملي لهم خير لأنفسهم " اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة . وظاهر " الذين كفروا " العموم . يحيـى بن وثاب
وقال : نزلت في ابن عباس اليهود والنصارى والمنافقين . وقال عطاء : في قريظة والنضير . وقال مقاتل : في مشركي مكة . وقال : هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له . وقال الزجاج : هذا هو الصحيح من المعاني . وقال مكي ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده . وأخبر الله تعالى أن ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام . قال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله . وقرأ : ( وما عند الله خير للأبرار ) وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما ، وقرأ هذه الآية . انتهى .
وقال : والإملاء لهم تخليتهم ، وشأنهم مستعار من : أملى لفرسه ، إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء . وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، أنما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم ؟ ( قلت ) : هو علة الإملاء ، وما كل علة بغرض . ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشر ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب . فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسببا فيه . ( فإن قلت ) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب ؟ ( قلت ) : لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز . انتهى كلامه . وكله جار على طريقة المعتزلة . وقال الزمخشري الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين ، أحدهما : على التقديم والتأخير . أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، أنما نملي لهم خير لأنفسهم . الثاني : أن هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يئول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شر . وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لا يجوز تنبيهه . فإن الإخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفلة ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه . انتهى كلامه . وكتبوا " ما " متصلة بأن في الموضعين . قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف . وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة ؛ لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ولا مصدرية ؛ لأن لازم كي لا يصح وقوعها خبرا للمبتدأ ولا لنواسخه . وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة .
( ولهم عذاب مهين ) : هذه الواو في : ولهم للعطف . وقال : ( فإن قلت ) : فما معنى قوله : " الزمخشري ولهم عذاب مهين " على هذه القراءة ، يعني قراءة بكسر إنما الأولى وفتح الثانية ؟ ( قلت ) : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال . كأنه قيل : ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين . انتهى . والذين نقلوا قراءة يحيـى بن وثاب يحيـى لم يذكروا أن أحدا قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر . ولكن [ ص: 125 ] من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه . ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب أنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : " الزمخشري ولهم عذاب مهين " يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية . ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين . ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها . أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعارا بخساسة ما سابقوا فيه . وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية ؛ لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته . وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة ، وكان هذا الإمتاع سببا للتعزز والتمتع والاستطاعة ، فختمت الآية بإهانة العذاب لهم . وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة .