الجنوب : جمع جنب وهو معروف . المرابطة : الملازمة في الثغر للجهاد ، وأصلها من ربط الخيل .
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) : قيل : نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قرأ عليهم الرسول القرآن : إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا . ورد عليه فقال : أغشنا به في مجالسنا يا رسول الله . وتساب المسلمون والمشركون ابن رواحة واليهود . وقيل : فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص . وقيل : في كعب بن الأشرف كان يحرض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره ، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك ، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فإنه يكثر تألمه . والآية مسوقة في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين .
والظاهر في قوله : " لتبلون " أنهم المؤمنون . وقال عطاء : المهاجرون ، أخذ المشركون رباعهم فباعوها ، وأموالهم فنهبوها . وقيل : الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد . والظاهر أن هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل الله وفي تكاليف الشرع ، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض ، أو فقد الأقارب والعشائر ، أو بالقتل والجراحات والأسر ، وأنواع المخاوف ، أقوال . وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف ، أو على سبيل الكثرة ؛ لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس . والأذى : اسم جامع [ ص: 136 ] في معنى الضرر ، ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه ، وفي الله تعالى وأنبيائه ، والمطاعن في الدين ، وتخطئة من آمن ، وهجاء كعب وتشبيبه بنساء المؤمنين .
( وإن تصبروا ) : على ذلك الابتلاء وذلك السماع .
( وتتقوا فإن ذلك ) : أي فإن الصبر والتقوى .
( من عزم الأمور ) : قيل : من أشدها وأحسنها . والعزم : إمضاء الأمر المروى المنقح . وقال النقاش : العزم هو الحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين . قال ابن عطية : وهذا خطأ . الحزم جودة النظر في الأمر ، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت ) فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم . والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم . وقال : " من عزم الأمور " من معزومات الأمور ، أي : مما يجب عليه العزم من الأمور ، أو مما عزم الله أن يكون ، يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا . وقيل : " الزمخشري من عزم الأمور " من جدها . وقال مجاهد في قوله : فإذا عزم الأمر ، أي فإذا وجد الأمر .
( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) : هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكتموه ونبذوه . قاله ، ابن عباس ، وابن جبير والسدي ، . وقال قوم : هم وابن جريج اليهود والنصارى . وقال الجمهور : هي عامة في كل من علمه الله علما ، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : بالياء فيهما على الغيبة ، إذ قبله " الذين أوتوا الكتاب " وبعده " فنبذوه " . وقرأ باقي السبعة بالتاء للخطاب ، وهي كقوله : ( لا تعبدون إلا الله ) قرئ بالتاء والياء ، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب . وقيل : هو للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : للميثاق . وقيل : للإيمان بالرسول لقوله :
( لتؤمنن به ولتنصرنه ) وارتفاع ولا تكتمونه لكونه وقع حالا ، أي : غير كاتمين له ، وليس داخلا في المقسم عليه . قالوا وللحال لا العطف ، كقوله : ( فاستقيما ولا تتبعان ) وقوله : " ولا يسأل " في قراءة من خفف النون ورفع اللام . وقيل : الواو للعطف ، وهو من جملة المقسم عليه . ولما كان منفيا بلا لم يؤكد ، تقول : والله لا يقوم زيد ، فلا تدخله النون . وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح ؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل لا ؛ حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال ، إذ المضارع المنفي بلا لا تدخل عليه واو الحال . وقرأ عبد الله : " ليبينونه " بغير نون التوكيد . قال ابن عطية : وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد ، قاله . انتهى . وهذا ليس معروفا من قول البصريين ، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة . والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام ، فيجيزون : والله لأقوم ، ووالله أقومن . وقال الشاعر : سيبويه
وعيشك يا سلمى لأوقن إنني لما شئت مستحل ولو أنه القتل
وقال آخر :
يمينا لأبغض كل امرئ يزخرف قولا ولا يفعل
وقرأ : " ميثاق النبيين لتبيننه للناس " ، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس ؛ إذ يستحيل عوده على النبيين ، أي : فنبذه الناس المبين لهم الميثاق ، وتقدم تفسير معنى : ( ابن عباس فنبذوه وراء ظهورهم ) في قوله : ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) .
( واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) : وتقدم تفسير مثل هذه الجملة والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة .
( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) : نزلت في المنافقين ، كانوا يتخلفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله بهذه الآية . قاله أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة . وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود . وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى : [ ص: 137 ] ( إنه كان وعده مأتيا ) أي مفعولا . فمعنى بما أتوا : بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبي : بما فعلوا . وفي الذي فعلوه وفرحوا به - أقوال . أحدها : كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه ، قاله . الثاني : ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء ، قاله ابن عباس أيضا . الثالث : قولهم : نحن على دين ابن عباس إبراهيم ، وكتمهم أمر الرسول ، قاله ابن جبير . الرابع : كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بنبي ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به . وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله ، قاله الضحاك والسدي . الخامس : قول يهود خيبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا ، قاله . السادس : تجهيز السدي اليهود جيشا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقهم على ذلك الجيش ، قاله النخعي . السابع : إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، ذكره . الثامن : اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا ، قاله الزجاج مجاهد . التاسع : تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال إنهم في حكم المجاهدين ، قاله أبو سعيد الخدري .
والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود . قيل : ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو علي : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به . وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله :
وما خلت أبقى بيننا من مودة عراض المذاكي المشنقات القلائصا
وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد . قال ابن عطية : فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلا من الأول ، وقد تعدى إلى المفعولين ، وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله :
بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب
أي : وتحسب حبهم عارا علي . والوجه الثاني : ما قاله : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفا على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين . وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : ( الزمخشري ولا يحسبن الذين كفروا أنما ) وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك . وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرر في علم النحو .
وقرأ حمزة ، و ، و الكسائي عاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطابا للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون . والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفا في المفعولين . وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب . والوجه الثاني ذكره ، قال : وأحد المفعولين ( الزمخشري الذين يفرحون ) ، والثاني ( بمفازة ) . وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين . وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب [ ص: 138 ] وضم الباء فيهما خطابا للمؤمنين . ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين . وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما . ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ؛ لاختلاف الفعلين ؛ لاختلاف الفاعل . وإذا كان ( فلا يحسبنهم ) توكيدا أو بدلا ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء . وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر :
حتى تركت العائدات يعدنه يقلن فلا تبعد وقلت له ابعد
وقال آخر :
لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي كفه يتذبذب
أي : لا تبعد ، وأي تركت . وقرأ النخعي : بما آتوا بمعنى : أعطوا . وقرأ ومروان بن الحكم ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنيا للمفعول . وتقدمت الأقوال في ( أتوا ) ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين .
وفي حرف عبد الله : ( بما لم يفعلوا بمفازة ) ، وأسقط ( فلا يحسبنهم ) . و ( مفازة ) مفعلة من فاز ، وهي للمكان ، أي : موضع فوز ، أي : نجاة . وقال الفراء : أي يبعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه . وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما ليس فيه وحبه المدح عليه منهي عنه ومذموم شرعا . وقال تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون ) وفي الحديث الصحيح : ( ) وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور ولهم عذاب أليم . وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا .
( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ) ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك ، وأنه قادر عليهم ، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم ، فليسوا بناجين من العذاب .