وقال مجاهد : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها ، فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) . وقال الحسن قريبا من هذا .
قال : تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط ، فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة . وحسن هذا القول بقوله : وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم ؛ قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال . قال : فإن قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق . ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ؛ ليكون أزجر لهم . انتهى كلامه . وملخصه : أن قوله : الزمخشري إلى أموالكم ليس قيدا للاحتراز ، إنما جيء به لتقبيح فعلهم ، ولأن يكون نهيا عن الواقع ، فيكون نظير قوله : ( أضعافا مضاعفة ) وإن كان الربا على سائر أحواله منهيا عنه . وما قدمناه نحن يكون ذلك قيدا للاحتراز ، فإنه إذا كان [ ص: 161 ] الولي فقيرا جاز أن يأكل بالمعروف ، فيكون النهي منسحبا على أكل مال اليتيم لمن كان غنيا كقوله : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) .
( إنه كان حوبا كبيرا ) قرأ الجمهور بضم الحاء ، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم ، وبعض القراء : ( إنه كان حابا كبيرا ) ، وكلها مصادر . قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الحوب الإثم . وقيل : الظلم . وقيل : الوحشة . والضمير في ( إنه ) عائد على الأكل . وقيل : على التبدل . وعوده على الأكل أقرب لقربه منه ، ويجوز أن يعود عليهما . كأنه قيل : إن ذلك كما قال :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
أي كأن ذلك ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولايتهم عليهن . قيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن . وقاله أيضا ربيعة . وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا . وقال ، ابن عباس ، وابن جبير والسدي : كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك ، كما تخافون ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه . وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم . وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصا بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء .
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) [ ص: 162 ] فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى . فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن .
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز ، وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها . خلافا نكاح اليتيمة قبل البلوغ لمالك والجمهور إذ قالوا : لا يجوز ، وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الولي يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ . ومعنى : ( خفتم ) حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر . وقال والشافعي أبو عبيدة : معنى خفتم هنا : أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر :
فقلت لهم خافوا بألفي مدجج
وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين . وقد روي ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدجج . هذه الرواية أشهر من خافوا . قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء ما ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال ، انتهى .ومعنى ( ألا تقسطوا ) أي : ألا تعدلوا . أي : وإن خفتم الجور ، وأقسط : بمعنى عدل . وقرأ النخعي وابن وثاب : ( تقسطوا ) بفتح التاء من قسط ، والمشهور في ( قسط ) أنه بمعنى ( جار ) . وقال : ويقال قسط بمعنى أقسط ، أي : عدل . فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت ( لا ) زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا ، أي : أن تجوروا ؛ لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها . وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا . الزجاج
وقرأ : ( من طاب ) . وقرأ الجمهور : ما طاب . فقيل : ( ما ) بمعنى ( من ) ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ( ما ) على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح . وقيل : عبر بـ ( ما ) عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء . وقيل : ( ما ) واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا : أن ( ما ) تقع على أنواع من يعقل . وقال ابن أبي عبلة أبو العباس : ( ما ) لتعميم الجنس على المبالغة ، وكأن هذا القول هو القول الذي قبله . وقيل : ( ما ) مصدرية ، والمصدر مقدر باسم الفاعل . والمعنى : فانكحوا النكاح الذي طاب لكم . وقيل : ( ما ) نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنسا أو عددا يطيب لكم . وقيل : ( ما ) ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم . والظاهر أن ( ما ) مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأن ( من النساء ) معناه : من البالغات . و ( من ) فيه إما لبيان الجنس ؛ للإبهام الذي في ( ما ) على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإما للتبعيض وتتعلق بمحذوف ، أي : كائنا من النساء ، ويكون في موضع الحال . وأما إذا كانت ( ما ) مصدرية أو ظرفية فمفعول ( فانكحوا ) هو ( من النساء ) ، كما تقول : أكلت من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئا من الرغيف . ولا يجوز أن يكون مفعول ( فانكحوا ) مثنى ؛ لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات .
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري : ( طاب ) بالإمالة . وفي مصحف والأعمش أبي : ( طيب ) بالياء ، وهو دليل الإمالة . وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره . وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه . ومعنى ما طاب أي : ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير ، قاله الحسن وابن جبير وأبو مالك . وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب . قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا [ ص: 163 ] العبيد .
ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عاما في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع . فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أن لنا أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الأعداد . وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره . فلا يجوز لنا أن نعطي أحدا من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول ( أو ) هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن ( أو ) لأحد الشيئين أو الأشياء . والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها محظورا عليهم ما زاد . وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد . وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحدا واثنين وثلاثا . وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه . وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ؛ لأن الواو تقتضي الجمع . فمعنى ( مثنى وثلاث ورباع ) اثنين وثلاثا وأربعا ، وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع . وذهب بعضهم إلى أن هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدل على جواز نكاح ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر . والكلام على هذه الأقوال استدلالا وإبطالا - مذكور في كتب الفقه الخلافية .