والضمير في جاءهم على المنافقين ، قاله والجمهور . أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله ابن عباس الحسن . ولم يذكر والزجاج غيره أو عليهما نقله الزمخشري ابن عطية ، أو على اليهود قاله بعضهم . والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة ، أو الخيبة والنكبة ، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك . أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر ، أو بتخفيف من جهة الكفار ، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه ، وكان في ذلك مضرة على المسلمين ، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم والخوف الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيخاف المسلمون منهم قاله الزجاج والماوردي ، وأبو سليمان الدمشقي .
وقال ابن عطية : المعنى أن المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم في سراياه ؛ فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين ، أو فتح عليهم ؛ حقروها وصغروا شأنها انتهى . والضمير في به عائد على الأمر ؛ قيل : ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف ، ووحد الضمير ; لأن ( أو ) تقتضي أحدهما .
( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ; أي ولو ردوا الأمر الذي بلغهم إلى الرسول ، وأولي الأمر ، وهم الخلفاء الأربعة ، ومن يجري على سننهم ، قاله أو ابن عباس أبو بكر ، وعمر خاصة ، قاله عكرمة . أو أمراء السرايا قاله ، السدي ومقاتل ، وابن زيد . أو العلماء من الصحابة قاله الحسن وقتادة ، . والمعنى : لو أمسكوا [ ص: 306 ] عن الخوض فيما بلغهم ، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر ؛ لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له بحث ونظر وتجربة ؛ فأخبروهم بحقيقة ذلك ، وأن الأمر ليس جاريا على أول خبر يطرأ . وابن جريج
قال : هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور ، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن ، وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به ، وكانت إذاعتهم مفسدة . ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله وإلى أولي الأمر منهم ، وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور ، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه ; أي الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم ، وتجاربهم ، ومعرفتهم بأمور الحرب ، ومكايدها . وقيل كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولي الأمر على أمن ، ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ؛ فيذيعونه فينشر ، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر ، وفوضوه إليهم ، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه ، وما يأتون ويدرون فيه . وقيل كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه ؛ فيعود ذلك وبالا على المؤمنين . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع ؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته ، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون ، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر ; أي يتلقونه منهم ، ويستخرجون علمه من جهتهم ، انتهى كلامه . الزمخشري
وهذه كلها تأويلات حسنة ، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير ؛ وهو : أن المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف ؛ فينبغي أن يشاع ، وأن يرد إلى الرسول ، وأولي الأمر ، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم ، ويستخرج ذلك من جهتهم ; لأن ما أخبر به الرسول ، وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه . وقال أبو بكر الرازي : في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس ، واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ; لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته . والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن من الأحكام ما هو مودع في النص ، قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط . وطول الرازي في هذه المسألة اعتراضا وانفصالا واستقرأ من الآية أحكاما .
قال : ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة ; لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصا عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط ، وسقط الرد إلى أولي الأمر ، بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص . وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب ، وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب : وقد لاح لي في هذه الآية أن في الكلام حذفا وتقديما وتأخيرا ، وأن هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه ، ويكون التقدير : أفلا يتدبرون القرآن ، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله ، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني : لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلا ؛ وهو ما استأثر الله به من علم كتابه ، ومكنون خطابه . ثم قال : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به والذي حسن لهم ذلك ، وزينه الشيطان ، ثم التفت إلى المؤمنين فقال : ( ولولا فضل الله عليكم ) الآية . وقد أشار إلى شيء من هذا في كتابه المعروف بقوت القلوب ، وقال : إن قوله : ( إلا قليلا ) متصل بقوله ( أبو طالب المكي لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وعلى هذا [ ص: 307 ] يكون الاستنباط استخراجا من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر ، انتهى كلامه . وهو كما ترى تركيب ، ونظم غير تركيب القرآن ونظمه ، وكثيرا ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديما وتأخيرا . وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان ؛ وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار ، وشتان ما بين القولين .
وقرأ أبو السمال : ( لعلمه ) بسكون اللام . قال ابن عطية : وذلك مثل شجر بينهم ، انتهى . وليس مثله ; لأن تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم ، و ( شجر ) ليس قياسا مطردا ، إنما هو على سبيل الشذوذ . وتسكين ( علم ) مثل التسكين في قوله :
فإن تبله يضجر كما ضجر بازل من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين ؛ قاله ابن عطية . قال : والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم ، وهو اتباع الشيطان . وقيل الفضل الرسول . وقيل الإسلام . وقيل القرآن . وقيل في الرحمة أنها الوحي . وقيل اللطف . وقيل النعمة . وقيل التوفيق . والظاهر أن الاستثناء هو من فاعل ( اتبعتم ) . قال الضحاك : هدى الكل منهم للإيمان ; فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ؛ وذلك هو القليل . وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا ، واتبعوا الشيطان ، ويكون الفضل معينا ; أي رسالة محمد والقرآن ; لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق .وقال قوم : إلا قليلا إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ؛ أدركوا بعقولهم معرفة الله ، ووحدوه قبل أن يبعث الرسول كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب ؛ فوحد الله وآمن به ؛ فعلى هذا يكون استثناء منقطعا ؛ إذ ليس مندرجا في المخاطبين بقوله : ( لاتبعتم ) .
وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الاتباع ، فقدره : إلا اتباعا قليلا ؛ فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل ، وهو ( الزمخشري لاتبعتم ) . وقال ابن عطية : في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع ، قال : أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه ، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع ، ويكون استثناء مفرغا والتقدير : لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلا من الأشياء فلا تتبعونه فيه . فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح ; لأنه يلزم من الاستثناء [ ص: 308 ] الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلا ؛ وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد ; لأن قوله : إلا اتباعا قليلا لا يرادف إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها . وقال قوم : قوله إلا قليلا عبارة عن العدم ، يريد : لاتبعتم الشيطان كلكم . قال ابن عطية : وهذا قول قلق ، وليس يشبه ما حكى من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، بمعنى لا تنبته ; لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ؛ ولكن ذكره سيبويه ، انتهى . وهذا الذي ذكره الطبري ابن عطية صحيح ، ولكن قد جوزه هو في قوله : ( ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) ، ولم يقلق عنده هناك ولا رده ، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة .
وقيل إلا قليلا مستثنى من قوله : أذاعوا به والتقدير : أذاعوا به إلا قليلا ؛ قاله ابن عباس وابن زيد ، واختاره ، الكسائي ، والفراء وأبو عبيد ، وابن حرب وجماعة من النحويين ، ورجحه . وقيل مستثنى من قوله : الطبري لعلمه الذين يستنبطونه منهم ؛ قاله الحسن وقتادة ، واختاره . وقال ابن عيينة : مكي ولولا فضل الله عليكم ; أي رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت والخلاف . لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم : ( خذوا حذركم فانفروا ثبات ) ، وقيل الخطاب عام والقليل المستثنى هم أمة الرسول ; لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار . وفي الحديث الصحيح : . ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود