( لعناهم ) أي : طردناهم وأبعدناهم من الرحمة ، قاله عطاء . أو عذبناهم بالمسخ قردة وخنازير كما قال : ( والزجاج أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) أي : نمسخهم كما مسخناهم قاله الحسن ، ومقاتل . أو عذبناهم بأخذ الجزية ، قاله . وقال ابن عباس قتادة : نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وتضييع الفرائض .
( وجعلنا قلوبهم قاسية ) قال : جافية جافة . وقيل : غليظة لا تلين . وقيل : منكرة لا تقبل الوعظ ، وكل هذا متقارب . وقسوة القلب : غلظه وصلابته ، حتى لا ينفعل لخير . وقرأ الجمهور من السبعة : قاسية ، اسم فاعل من قسا يقسو . وقرأ ابن عباس عبد الله ، وحمزة ، : قسية ، بغير ألف وبتشديد الياء ، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد . وقال قوم : هذه القراءة ليست من معنى القسوة ، وإنما هي كالقسية من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، وكذلك القلوب لم يصف الإيمان بل خالطها الكفر والفساد . قال والكسائي أبو زبيد الطائي :
لهم صواهل في صم السلاح كما صاح القسيات في أيدي الصياريف
وقال آخر :
فما زادوني غير سحق عمامة وخمس ميء فيها قسي وزائف
قال الفارسي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب . وقال وقرأ الزمخشري عبد الله ( قسية ) أي : رديئة مغشوشة ، من قولهم : درهم قسي ، وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة . والقاسي والقاسح ، بالحاء ، أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة . انتهى . وقال : سمي الدرهم الزائف قسيا لشدته بالغش الذي فيه ، وهو يرجع إلى المعنى الأول ، والقاسي والقاسح بمعنى واحد . انتهى . وقول المبرد : مخالف لقول المبرد الفارسي ، لأن المعهود جعله عربيا من القسوة ، والفارسي جعله معربا دخيلا في كلام العرب وليس من ألفاظها .
وقرأ الهيصم بن شداخ : ( قسية ) ، بضم القاف وتشديد الياء ، كحني . وقرئ بكسر القاف إتباعا . وقال : خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم ، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست . انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . وأما أهل السنة فيقولون : إن الله خلق القسوة في قلوبهم . الزمخشري
( يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي : يغيرون ما شق عليهم من أحكامها ، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم ، قال معناه وغيره ، وقالوا : التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن . ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم ؟ وقال ابن عباس مقاتل : تحريفهم [ ص: 446 ] الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى ، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى . وهذه الجملة وما بعدها جاءت بيانا لقسوة قلوبهم ، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه . وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف . وقرأ أبو رجاء : الكلم ، بكسر الكاف وسكون اللام . وقرأ الجمهور : الكلم ، بفتح الكاف .
( ونسوا حظا مما ذكروا به ) وهذا أيضا من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم ، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه ، وهذا الحظ من الميثاق المأخوذ عليهم . وقيل : لما غيروا ما غيروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه ، فنسوا حظا مما في التوراة قاله مجاهد . وقيل : أنساهم نصيبا من الكتاب بسبب معاصيهم ، وعن : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية ، وتلا هذه الآية . وقال الشاعر : ابن مسعود
شكوت إلى سوء حفظي فأومأ لي إلى ترك المعاصي وكيع
وقيل : تركوا نصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) أي : هذه عادتهم وديدنهم معك ، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء . فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك ، ويظاهرون عليك أعداءك ، ويهمون بالقتل بك ، وأن يسموك . ويحتمل أن يكون الخائنة مصدرا كالعافية ، ويدل على ذلك قراءة ( على خيانة ) أو اسم فاعل ، والهاء للمبالغة ، كراوية ; أي : خائن ، أو صفة لمؤنث ; أي : قرية خائنة ، أو فعلة خائنة ، أو نفس خائنة . والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة ، والمستثنون الأعمش وأصحابه ، قاله عبد الله بن سلام . وقال ابن عباس ابن عطية : ويحتمل أن يكون في الأفعال ; أي : إلا فعلا قليلا منهم ; فلا تطلع فيه على خيانة . وقيل : الاستثناء من قوله : ( وجعلنا قلوبهم قاسية ) والمراد به المؤمنون ، فإن القسوة زالت عن قلوبهم ، وهذا فيه بعد .
( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم ، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق . وقال : يجوز أن يعفو عنهم في مغدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء جزية . وقيل : الضمير عائد على من آمن منهم ، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم ، فيكون عائدا على المستثنين . وقيل : هذا الأمر منسوخ بآية السيف . وقيل : بقوله : ( ابن جرير قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) . وقيل : بقوله : ( وإما تخافن من قوم خيانة ) وفسر قوله : يحب المحسنين ، بالعافين عن الناس ، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان ، وبالمستثنين : وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي ، عليه السلام ، ، لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو .