( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة ، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح ، لأنهم قالوا ابن مريم ، ومن كان ابن امرأة مولودا منها استحال أن يكون هو الله تعالى ; واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية . فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم ، وأنهم أجمعوا ، وإن اختلفت مقالاتهم ، على أن معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة : الأب ، والابن ، والروح ; أي : الحياة ويسمونها روح القدس . وأن الابن [ ص: 449 ] لم يزل مولودا من الأب ، ولم يزل الأب والدا للابن ، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن . وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت ; أي : إله وإنسان . فإذا قالوا : المسيح إله واحد ، فقد قالوا : الله هو المسيح . وذهب قوم إلى أن القائلين بهذا القول فرقة غير معينة ، يقولون : إن الكلمة اتحدت بعيسى سواء قدرت ذاتا أم صفة . وذهب قوم إلى أن اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة ، ذكره البغوي في معالم التنزيل .
قال بعض المفسرين : وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية ، والملكانية ، والنسطورية ، ينكرون هذه المقالة ، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى ، وأنه إله . وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله . انتهى . وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم ، وذكر لي أن عيسى نفسه هو الله تعالى ، ونصارى الأندلس ملكية . قلت له : كيف تقول ذلك ، ومن المتفق عليه أن عيسى كان يأكل ويشرب ، فتعجب من قولي وقال : إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادرا على أن تأكل وتشرب ، فكيف لا يكون الله قادرا على ذلك ؟ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى . وذهب إلى أنهم أهل ابن عباس نجران ، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض ، والله إله السماء . ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى : القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج ، والشوذي ، وابن أحلى ، وابن العربي المقيم - كان - بدمشق ، . وأتباع هؤلاء وابن الفارض كابن سبعين ، والتستري تلميذه ، وابن مطرف المقيم بمرسية ، والصفار المقتول بغرناطة ، وابن اللباج . وأبو الحسن المقيم - كان - بلورقة . وممن رأيناه يرمى بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كثيرة ، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم - كان - بدمشق ، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم - كان - بصعيد مصر ، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر ، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم - كان - 2 بحارة زويلة . وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحا لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين ، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم ، وينكرون البعث . وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه .
والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين . وقال ابن عطية : القائلون بأن الله ه والمسيح فرقة من النصارى ، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظا من الألوهية . وقال : قيل : كان في الزمخشري النصارى من يقول ذلك ، وقيل : ما صرحوا به ، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيـي ويميت ويدبر العالم .
( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) هذا رد عليهم . والفاء في " فمن " للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم ; التقدير : قل : كذبوا ; وقل : ليس كما قالوا .
فمن يملك ; والمعنى : فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئا ؟ أي : لا أحد يمنع مما أراد الله شيئا إن أراد أن يهلك من ادعوه إلها من المسيح وأمه . وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما ، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى ، ومن تنفذ فيه لا يكون إلها ، وعطف عليهما : ومن في الأرض جميعا ، عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين ، مرة بالنص عليهما ، ومرة بالاندراج في العام ; وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما . وليعلم أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية ، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما ، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحل به الحوادث ، وأن يكون محلا لها . وفي هذا رد على [ ص: 450 ] الكرامية . ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض ، فهما مقهوران لله تعالى ، مملوكان له ، وهذه الجملة مؤكدة لقوله : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ; ودلالة على أنه إذا أراد فعل ، لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء .
( يخلق ما يشاء ) أي : إن خلقه ليس مقصورا على نوع واحد ، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أوجده واخترعه ، فقد يوجد شيئا لا من ذكر ولا أنثى كآدم ، عليه السلام ، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض . وقد يخلق من ذكر وأنثى ، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها ، كالمسيح . ففي قوله : يخلق ما يشاء ، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان . وقيل : معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة ، وكإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده . وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقا مقهورا بالملك عاجزا عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلها .
( والله على كل شيء قدير ) تقدم تفسير هذه الجملة ، وكثيرا ما يذكر القدرة عقيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة .