( يريدون أن يخرجوا من النار ) أي : يرجون ، أو يتمنون ، أو يكادون ، أو يسألون : أقوال متقاربة من حيث المعنى ، والإرادة ممكنة في حقهم ، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها . قال الحسن : إذا فارت بهم [ ص: 475 ] النار فروا من بأسها ، فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون فيه ، وذلك قوله : يريدون أن يخرجوا من النار . وقيل : إنكم يا أصحاب لجابر بن عبد الله محمد تقولون : إن قوما يخرجون من النار ، والله تعالى يقول : ( وما هم بخارجين منها ) فقال جابر إنما هذا في الكفار خاصة . وحكى عن الطبري نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال : يا أعمى البصر ، يا أعمى القلب ، أتزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : لابن عباس وما هم بخارجين منها ؟ فقال له : اقرأ ما فوق ، هذه الآية في الكفار . وقال ابن عباس : وما يروى عن الزمخشري عكرمة أن نافع بن الأزرق قال ، وذكر الحكاية ، ثم قال : فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم ، وكفاك بما فيه من مواجهة لابن عباس ابن الأزرق لابن عم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو بين أظهر أعضاده من قريش ، وأنضاده من بني عبد المطلب ، وهو حبر هذه الأمة وبحرها ، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة - دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية . انتهى . وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة ، ومذهبه : أن من دخل النار لا يخرج منها . وقرأ الجمهور : أن يخرجوا ; مبنيا للفاعل ، ويناسبه : وما هم بخارجين منها . وقرأ النخعي ، وابن وثاب ، وأبو واقد : أن يخرجوا ; مبنيا للمفعول .
( ولهم عذاب مقيم ) أي : متأبد لا يحول . ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) قال السائب : نزلت في طعمة بن أبيرق ، ومضت قصته [ ص: 476 ] في النساء . ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتوقي لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار - ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن ، والأرجل بالسنة ; على ما يأتي ذكره ، وهو أيضا حرابة من حيث المعنى ، لأن فيه سعيا بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص . يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، سرق شيئا ما ، قليلا أو كثيرا ، قطعت يده ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم : الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود .
وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة ، بل أقل شيء يسمى مالا ، وفي أقل شيء يخرج الشح والضنة . وقيل : النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعدا ، أو قيمتها من غيرها ، روي ذلك عن : ، ابن عباس وابن عمرو أيمن الحبشي ، وأبي جعفر ، وعطاء ، وإبراهيم ، وهو قول ، الثوري وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد . وقيل : ربع دينار فصاعدا ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، ، وهو قول : وعمر بن عبد العزيز ، الأوزاعي والليث ، ، والشافعي ; وقيل : خمسة دراهم ; وهو قول : وأبي ثور أنس ، وعروة ، ، وسليمان بن يسار . وقيل : أربعة دراهم ; وهو مروي عن والزهري ، أبي سعيد الخدري . وقيل : ثلاثة دراهم ; وهو قول : وأبي هريرة ، وبه قال ابن عمر مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، إلا إن كان ذهبا فلا تقطع إلا في ربع دينار . وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال . وقطع عثمان البتي عبد الله بن الزبير في درهم . وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه .
وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة ; بالرفع . وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي : والسرق والسرقة ، بضم السين المشددة فيهما ، كذا ضبطه أبو عمرو . قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه . والرفع في ، والسارق والسارقة ، على الابتداء ، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم ; السارق والسارقة أي : حكمهما . ولا يجوز أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ; أي : جملة صالحة لأداة الشرط . والموصول هنا أل ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول ، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه . وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت . ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك ، تأوله على إضمار الخبر ، فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة - جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله : سيبويه فاقطعوا ، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى . وقرأ عيسى بن عمر ، : والسارق والسارقة ، بالنصب على الاشتغال . قال وابن أبي عبلة : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيدا فاضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم . ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده . وقد تجاسر سيبويه أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي بن خطيب الري على وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة [ ص: 477 ] المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعا . ( قلت ) : هذا تقول على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وأفهم أن المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيدا اضربه ، على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء . فقوله : أبت العامة إلا الرفع - تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ؛ لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز ، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب . فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنيا على مبتدأ مضمر أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ; وإن شئت لم تظهر هذا ، ويعمل عمله إذا كان مظهرا وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ، ثم جئت بالأمر . ومن ذلك قول الشاعر : سيبويه
وقائلة خولان فانكح فتاتهم وأكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده . انتهى . فإذا كان يقول : وقد يحسن ويستقيم . عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ، وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم ؟ لكنه جوزه على أن يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في السارق والسارقة ، أو خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : الهلال ، والله ، فانظر إليه . سيبويه
وقال : ( فإن قلت ) - يعني الفخر الرازي - : لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضا رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا سيبويه عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود . ( قلت ) : هذا السؤال لم يقله ، ولا هو ممن يقوله ، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه ! وأيضا فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا سيبويه عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين - تشنيع وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى [ ص: 478 ] الصحابة وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضا ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق لأن عيسى بن عمر ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة . وقال وإبراهيم بن أبي عبلة : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، فأخبر أنها قراءة ناس . وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم . قال سيبويه : الثاني من الوجوه التي تدل على فساد قول الفخر الرازي : أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ : ( سيبويه واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) بالنصب ، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول . ( قلت ) : لم يدع أن قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع . ويعني سيبويه بقوله : من القوة ، لو عري من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة ; أي : جمهور القراء ، إلا الرفع ; لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبرا لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع . ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي ، لم يمثله بالفاء بل عاريا منها . قال سيبويه : وذلك [ ص: 479 ] قولك : زيدا اضربه وعمرا أمرر به ، وخالدا اضرب أباه ، وزيدا اشتر له ثوبا ; ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر . فإذا قلت : زيدا فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء . ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم ؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبرا عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر . ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره . لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء وجملة الأمر خبره لأجل الفاء - أجاز نصبه على الاشتغال ، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ . سيبويه
وتلخيص ما يفهم من كلام : أن الجملة الواقعة أمرا بغير فاء بعد اسم - يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإن دخلت عليه الفاء فإما أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة ، فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجري مجرى اسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو . وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعا ، إما مبتدأ كما [ ص: 480 ] تأول سيبويه في قوله : والسارق والسارقة ، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل : القمر والله فانظر إليه . والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها . فإذا قلت زيدا فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيدا اضربه ; حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر ، وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه لا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر . فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في موقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى . قال سيبويه : وأما قوله عز وجل : ( سيبويه الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ) ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فإن هذا لم يبن على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) ثم قال بعد فيها : ( أنهار فيها ) كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه ، والله أعلم . وكذلك الزانية والزاني ; لما قال تعالى : ( سورة أنزلناها وفرضناها ) قال في الفرائض : ( الزانية والزاني أو الزانية والزاني ) في الفرائض ، ثم قال : فاجلدوا ، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال . وقائلة خولان فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك السارق والسارقة . كأنه قال : مما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم . وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث . انتهى .
إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأن فسيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة . فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين . سيبويه