الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وكل ما قاله وكان يشبه القذف إذا احتمل غيره لم يكن قذفا وقد أتى رجل من فزارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود فلم يجعله - صلى الله عليه وسلم - قذفا وقال الله تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء فكان خلافا للتصريح " .

                                                                                                                                            [ ص: 131 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : كنايات القذف ومعاريضه لا تكون قذفا إلا بالإرادة في الغضب والرضى جميعا .

                                                                                                                                            وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء ، وقال مالك وأحمد وإسحاق : أكثر المعاريض قذف في الغضب دون الرضى كقوله : أنا ما زنيت ، أو يا حلال ابن الحلال .

                                                                                                                                            حكي أن رجلا أتى مالكا فقال : ما تقول في رجل قال لرجل : يا زان ابن الزانية ، قال : هو قاذف ، قال : فإن قال : يا حلال ابن الحلال ، قال : هو قاذف ، فقال الرجل : يكون قاذفا إذا قال : يا حلال ابن الحلال وإذا قال : يا زاني ابن الزانية ، فقال مالك : قد يأتيه [ الباطل ] بلفظ الحق واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] . فكان صريح الآية أن أحدهما على هدى والآخر على ضلال ، ودليلها في موضع الخطاب والتعريض بالذم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته على هدى ، وأن المشركين على ضلال مبين ، فكذلك حكم المعاريض كلها .

                                                                                                                                            وروى سالم عن أبيه : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد في التعريض بالزنا ، وليس له مخالف ، فكان إجماعا ، ولأن احتمال التعريض يصرفه الغضب إلى الصريح ، لأن شاهد الحال أظهر من الاعتقاد .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رجلا من فزارة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألك إبل ؟ قال نعم : قال ما ألوانها ؟ قال : حمر كلها ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم ، قال : أنى ترى ذلك ؟ قال : لعل عرقا نزع ، قال : كذلك هذا لعل عرقا نزع .

                                                                                                                                            فلم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التعريض بالقذف صريحا . فإن قيل : إنما يكون صريحا في الغضب ولم يظهر منه غضب ، قيل : حاله يشهد بغضبه ؛ لأنه أنكر من زوجته وهما أبيضان أن تلد غلاما أسود يخالفهما في الشبه .

                                                                                                                                            ويدل عليه ما روي أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال : طلقها ، فقال : إني أحبها ، قال : أمسكها ، وهذا تعريض بالقذف ولم يجعله قاذفا .

                                                                                                                                            فإن قيل : المراد بقوله : " يد لامس " ، أريد به ملتمس ، أي طالب لما له لتبذيرها له في كل سائل وطالب ، ولم يرد التماس الفاحشة فيكون تعريضا ، قيل : لا يجوز حمله على هذا التأويل المخالف لأمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 132 ] أحدهما : أنه لو أراد هذا القول لقال : لا ترد يد ملتمس ، ولم يقل : يد لامس .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو قصد هذا لم يؤمر بطلاقها ، ولأمر بحبس ماله عنها .

                                                                                                                                            وروي أن اليهود كانت تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمما عصينا ، وأمره أبينا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما ترون كيف عصمني الله منهم ، إنهم يسبون مذمما وأنا محمد ، فلم يجعل تعريضهم به صريحا ، ولأن الله تعالى أحل التعريض بالخطبة وقد حرم صريحها ، فدل على اختلاف حكم التعريض والتصريح ، ويدل عليه عن طريق المعنى : أن كل ما كان كناية في الرضا كان كناية في الغضب كالكنايات في الطلاق ، وأن كل ما لو نسبه إلى نفسه لم يكن إقرارا بالزنا وجب إذا نسبه إلى غيره أن لا يكون قذفا بالزنا قياسا على حال الرضا ؛ لأنه لو قال لنفسه : أنا ما زنيت لم يكن إقرارا ، كذلك إذا قال لغيره : أنا ما زنيت لم يكن قذفا .

                                                                                                                                            فأما الاستدلال بالآية ، فهي على الفرق بين التعريض والتصريح أدل ؛ لأنه عدل عن قوله : نحن على هدى ، وأنتم على ضلال مبين ، لما فيه من التنفير [ إلى ما هو ألطف ] في القول تأليفا لهم وإن كان في معناه ، فقال : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فلو كان التعريض كالتصريح لعدل عن اللفظ المحتمل إلى ما هو أوضح منه وأبين .

                                                                                                                                            أما استدلالهم بالإجماع بأن عمر - رضي الله عنه - حد في التعريض ، فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عمر - رضي الله عنه - قد خولف فيه فقد روت عمرة أن شابا خاصم غيره في زمان عمر - رضي الله عنه - فقال : ما زنى أبي ولا أمي ، فرفع إلى عمر - رضي الله عنه - فاستشار الصحابة ، فقالوا : مدح أباه وأمه ، فحده عمر - رضي الله عنه - فثبت اختلافهم فيه .

                                                                                                                                            والثاني : ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن شاهد الحال ينفي احتمال المعاريض فليس بصحيح ؛ لأن صريح القذف في حالة الرضا والبر لا يزول عن حكمه ، وكذلك التعريض في حال الغضب والعقوق .

                                                                                                                                            [ ص: 133 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية