الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
قوله : " وتقبضني على الكتاب والسنة " : أي على مضمونهما ومقتضاهما ، وما أفصحا به ، ودلا عليه في أصول الدين وفروعه ، في الذات والصفات والعلم والعمل .
قوله : " وتجعل رحمتك بي من النار جنة " أي سترا أستتر به من النار ، وكل شيء ستر شيئا ، فقد أجنه ، وهو جنة له ، بضم الجيم ، كالدرع والجوشن للمحارب ، وأصل المادة المذكورة وتراكيبها ترجع إلى معنى الستر ، كالجن والجنون والجنة للبستان ، والمجن للترس ، ومعنى الستر في جميعها ظاهر . نعم ، استعمال الجنة في الرحمة مجاز ، لأن نفس الرحمة ليست هي الساتر الحائل دون النار ، بل إذا باعد الله سبحانه وتعالى برحمته بين العبد والنار ، حتى لا يجد ضررها ، كانت الرحمة سببا لزوال أذاها ، فصارت كأنها ساتر حجب أذى النار عن الوصول ، وذلك لأن nindex.php?page=treesubj&link=29693رحمة الله سبحانه وتعالى إما صفة ذات ، أو صفة فعل ، وعلى التقديرين لا يصح أن يكون حقيقتها جنة ، لأن الصفة الذاتية لا تنتقل ، والفعل عرض لا يتحقق به الستر .
قوله : " وتدخلني بفضلك وجودك الجنة " الجود قد سبق معناه ، والفضل : الإفضال والإحسان ، وأفضل عليه : إذا أحسن إليه .
قوله : " يا منان " نداء لله سبحانه وتعالى ، ووصف له بصفته الجميلة ، وهي المن والإنعام ، لأن المسؤول إذا دعي بجميل صفاته كان أجدر بإجابة السؤال ، والمنان : الكثير المن والإفضال المتكرر ، لأن ذلك مقتضى صيغة فعال .
قوله : " وتلحقني بالنبي الأفضل " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهو nindex.php?page=treesubj&link=28753أفضل الخلق على الإطلاق .
قوله : " والرسول المكمل الأكمل " ، ههنا بحثان :
أحدهما : ذكر لفظ النبي والرسول لوجهين :
أحدهما : دفعا لتكرار اللفظ الواحد .
الثاني : أن لفظ الرسول هنا مناسب لذكر التكميل ، لأنه من لوازم الرسالة ، بخلاف النبي ، فإنه لا يكمل أحدا ، ولهذا جاء في حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022013لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ، جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم ، والنبي والنبيين ومعهم الرهط ، والنبي والنبيين وليس معهم أحد الحديث رواه الترمذي [ ص: 88 ] وصححه .
nindex.php?page=treesubj&link=29634والفرق بين النبي والرسول ، قيل : بأن النبي يوحى إليه مناما ، والرسول على لسان الملك يقظة ، وهو ضعيف ، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أوحي إليه ستة أشهر مناما في أول أمره ، ولم يقل أحد : إنه لم يكن حينئذ رسولا ، اللهم إلا أن يقال : بأن الرسول نبي خاص ، فكان الوحي إليه مناما من جهة كونه نبيا ، ويكون الوحي قد تراخى عنه تلك المدة من جهة كونه رسولا ، كما انقطع عنه خمسة عشر يوما حين سئل عن أهل الكهف والإسكندر ، وعن الروح ، فقال : غدا أخبركم ولم يستثن ، والقصة مشهورة .
وقيل : بأن الرسول لا بد وأن يدعو الله سبحانه وتعالى ، والنبي لا يلزم فيه ذلك بل تكون نبوته وحيا يختص به ، ومناجاة بينه وبين ربه .
وقد ذكر بعض السلف أن بني إسرائيل كانوا إذا عبد الواحد منهم أربعين سنة أوحي إليه ، فعبد بعضهم الله سبحانه وتعالى أربعين سنة ولم يوح إليه ، وكان يرى نفسه فرجع يلومها ويقول : يا نفس ما أتيت إلا من قبلك ، فأوحى الله إليه : الآن حيث اعترفت بالتقصير أهلتك للوحي ، أو كما قال .
وحاصل هذا الوجه أن الرسالة معنى متعد ، والنبوة تكون لازمة ومتعدية ، وذكر يعقوب بن سليمان الإسفراييني في " دلائل النبوة " : أن النبي من أتاه الوحي من الله [ ص: 89 ] تعالى ، والرسول من أتى بشرع ابتداء وبنسخ بعض أحكام شريعة من قبله ، وهذا نحو الذي قبله .
البحث الثاني : أن nindex.php?page=treesubj&link=28661_29620الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : إما كامل مكمل ، أو لا كامل ولا مكمل ، أو كامل غير مكمل ، أو مكمل غير كامل ، وهذا القسم محال لا يتصور ، لأن تكميل الغير فرع كمال الذات ، فإذا انتفى الأصل ، استحال وجود الفرع ، ولأن كمال الشيء في نفسه مبدأ تكميله لغيره ، والمحدث بدون مبدأ محال ، ونظيره أن التعليم بغير علم ، وطهورية الماء بدون طهارته محال .
أما الأقسام الثلاثة الأول ، فأعلاها الكامل المكمل - بكسر الميم - وله مراتب أعلاها في ذلك رتبة الباري ، جل جلاله ، فإنه الكامل في ذاته لذاته لا لمكمل غيره ، وهو المكمل لمن سواه مطلقا ، لكن لبعضهم بغير واسطة ، كالملائكة والنبيين والأولياء المحدثين الملهمين ، ولبعضهم بواسطة هؤلاء كتكميل الأمم بالأنبياء ، وبعض أشخاص الأمم ببعض كالتلميذ بالمعلم ، والقاضي بالإمام يوليه الحكم ، والعدل بالقاضي يعدله ، والشاهد بالمزكي ، والمولى عليه بالولي .
ثم يلي هذا القسم في الرتبة الكامل غير المكمل ، كالرجل الصالح العارف بربه ، لكن ليس له قوة تعرفه غيره ، والعالم بما يحتاج إليه في عمله وتعبداته ، وليس عنده فضل علم يعلمه غيره ، أو ليس عنده قوة يوصل بها إلى فهم غيره ، فهذا كالماء الطاهر غير الطهور ، والذي قبله كالطهور . [ ص: 90 ] والقسم الآخر الذي ليس بكامل ولا مكمل ، هو كالماء النجس الذي لا هو طاهر في نفسه ، ولا مطهر لغيره ، وقد سلب صفتي الطهارة والطهورية ، فهو كالفاسق الذي ليس هو عدلا ، ولا تقبل تزكيته لمن يريد التعديل ، وكالكافر الشيطان الذي ليس فيه خير ، ولا يأمر غيره بخير .
إذا عرف هذا ، فكمال كل شيء بحسبه ، وهو متفاوت في مراتبه ، nindex.php?page=treesubj&link=29620فكمال المحدث دون كمال القديم ، وكمال العرض دون كمال الجوهر ، وكمال الجماد دون كمال النامي ، وكمال النامي دون كمال الحساس ، وكمال الحساس - وهو الحياة - دون كمال الإنسان ، ثم يتفاوت الإنسان في مراتب الكمال بحسب المعاني والصفات الموجبة للتفاوت ، فلهذا قال : " nindex.php?page=treesubj&link=32019والرسول المكمل الأكمل " : أي المكمل لغيره بالهداية والإرشاد والدعاء إلى سبل الرشاد ، الأكمل من جميع أشخاص نوعه وغيره ، فالكامل منهم مشارك له في مطلق الكمال ، وهو مختص برتبة الأكملية .
وقوله : " الذي nindex.php?page=treesubj&link=28747ختم النبوة وأكمل " هذا وصف للرسول بأنه ختم النبوة وأكملها ، بعد أن كانت محتاجة إليه صلى الله عليه وسلم ، كما روى جابر رضي عنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022014قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما مثلي ومثل الأنبياء قبلي كرجل بنى دارا ، فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون : لولا موضع اللبنة أخرجاه في " الصحيحين " وصححه الترمذي ، وفي بعض الألفاظ : فكنت أنا تلك اللبنة ، صلى الله عليه وسلم .
قوله : " ومن تبعه بإحسان " . [ ص: 91 ]
هذا عطف على النبي الأفضل ، وهو في موضع جر بالباء ، تقديره : وأن تلحقني بالنبي وبمن تبعه بإحسان ، وهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم ، ممن أحسن عبادة ربه والقيام بأمره .