الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الحجة السادسة عشرة ) القمط وشواهد الحيطان قال بها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، وجماعة من العلماء ، وفيه مسألتان ( المسألة الأولى )

قال ابن أبي زيد في النوادر قال أشهب إذا تداعيا جدارا متصلا ببناء أحدهما ، وعليه جذوع للآخر فهو لمن اتصل ببنائه .

ولصاحب الجذوع موضع جذوعه لأنه جوزه ، ويقضي بالجدار لمن إليه عقود الأربطة ، وللآخر موضع جذوعه ، وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات ، وللآخر خمس خشبات ولا ربط ، ولا غير ذلك فهو بينهما نصفان لا على عدد الخشب ، وبقيت خشباتهما بحالها ، وإذا انكسرت خشب أحدهما رد مثل ما كان ، ولا يجعل لكل واحد ما تحت خشبه منه ، ولو كان عقده لأحدهما من ثلاثة مواضع ، وللآخر من موضع قسم بينهما على عدد العقود ، وإن لم يعقد لواحد ، ولأحدهما عليه خشب معقودة بعقد البناء أو مثقوبة فعقد البناء يوجب ملك الحائط لأنه في العادة إنما يكون للمالك ، وقيل لا يوجبه ، وقال في المثقوبة نظر لأنها طارئة على الحائط ، والكوى كعقد البناء توجب الملك ، وكوى الضوء المنفوذة لا دليل فيها قال ابن عبد الحكم إذا لم يكن لأحدهما عقد ، وللآخر عليه خشب ، ولو واحدة فهو له ، وإن لم يكن إلا كوى غير منفوذة أوجبت الملك ، وإن لم يكن الأخص القصب لأحدهما ، والقصب والطوب سواه قلت المدرك في هذه الفتاوى كلها شواهد العادات فمن ثبتت عنده عادة قضى بها ، وإن اختلفت العوائد في الأمصار والأعصار وجب اختلاف هذه الأحكام فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكم مبني على عادة إذا تغيرت العادة تغير كالنقود ومنافع الأعيان وغيرهما

( المسألة الثانية ) قال بعض العلماء إذا تنازعا حائطا مبيضا هل هو منعطف لدارك أو لداره فأمر الحاكم بكشف البياض لينظر إن جعلت الأجرة في الكشف عليه فمشكل لأن الحق قد يكون لخصمك ، والأجرة ينبغي أن تكون على من يقع له العمل ونفعه ، ولا يمكن أن تقع الإجارة على من يثبت له الملك لأنكما جزمتما بالملكية فما وقعت الإجارة إلا جازمة .

وكذلك القائف لو امتنع إلا بأجر قال ويمكن أن يقال يلزم الحاكم كل واحد منهما باستجارة ، ويلزم الأجرة في الأخير لمن يثبت له ذلك الحق كما يحلف في اللعان ، وغيره ، وأحدهما [ ص: 104 ] كاذب

[ ص: 105 - 111 ]

التالي السابق


[ ص: 105 - 111 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب الخامس عشر ) في بيان ما تكون فيه حجة القمط وشواهد الحيطان ، والخلاف في قبولها ، ودليله ، وفيه وصلان

( الوصل الأول ) هذه الحجة من أنواع الأمارات والعلامات التي يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بها فيما لا تحضره البينات كما سيأتي عن ابن العربي قال ابن العربي وعلى الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فما ترجح منها قضي بجانب الترجيح ، وهو قوة التهمة ، ولا خلاف في الحكم بها ، وقد جاء بها في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة ، وبعضها قال بها المالكية خاصة ، وقد ذكر ابن فرحون في فصل بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم بالقرائن والأمارات من تبصرته خمسين مسألة منها أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء الرجل والمرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف ، وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقدت عليها ، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة ومنها أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون على الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا ، وأنه مرسلة إليهم فيقبلون أقوالهم ، ويأكلون الطعام المرسل به ، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف ، وقال ومنها قولهم في الركاز إذا كان عليه علامة المسلمين سمي كنزا ، وهو كاللقطة .

وإن كان عليه شكل الصليب أو الصور أو اسم ملك من ملوك الروم فهو ركاز فهذا عمل بالعلامات قال ومنها جواز دفع اللقطة لواصف عفاصها ووكائها اعتمادا على مجرد القرينة قال ابن الغرس واختلف أصحابنا في الوديعة والسرقة وشبهها إذا جهل صاحبها هل تقبل في ذلك الصفة كاللقطة أم لا ومنها إذا تنازعا جدارا حكم به لصاحب الوجه ومعاقد القمط والطاقات والجذوع ، وذلك حكم بالأمارات ا هـ المراد فانظر التبصرة .

وفي الأصل قال ابن أبي زيد في النوادر قال أشهب إذا تداعيا جدارا متصلا ببناء أحدهما ، وعليه جذوع للآخر فهو لمن اتصل ببنيانه ، ولصاحب الجذوع موضع جذوعه لأنه حوزه ، ويقضى بالجدار لمن إليه عقود الأربطة ، وللآخر موضع جذوعه [ ص: 168 ] وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات ، وللآخر خمس خشبات ، ولا ربط لا غير ذلك فهو بينهما نصفان لا على عدد الخشب ، وبقيت خشباتهما بحالها ، وإذا انكسرت خشب أحدهما رد مثل ما كان ، ولا يجعل لكل واحد ما تحت خشبه منه أي من الجدار ، ولو كان عقده لأحدهما من ثلاثة مواضع ، وللآخر من موضع قسم بينهما على عدد العقود ، وإن لم يعقد لواحد ، ولأحدهما عليه خشب معقودة بعقد البناء متقوية فعقد البناء يوجب ملك الحائط في العادة إنما يكون للمالك ، وقيل لا يوجبه ، وقال في المتقوية نظر لأنها طارئة على الحائط ، والكوة كعقد البناء توجب الملك ، وكوى الضوء المنفوذة لا دليل فيها قال ابن عبد الحكم إذا لم يكن لأحدهما عقد ، وللآخر عليه خشب ، ولو واحدة فهو له ، وإن لم يكن إلا كوى غير منفوذة أوجبت الملك ، وإن لم يكن الأخص القصب لأحدهما ، والقصب والطوب سواء ا هـ .

قال الأصل المدرك في هذه الفتاوى كلها شواهد العادات فمن ثبتت عنده عادة قضى بها ، وإن اختلفت العوائد في الأمصار والأعصار وجب اختلاف هذه الأحكام فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكم مبني على عادة إذا تغيرت العادة تغير كالنقود ، ومنافع الأعيان وغيرها

( مسألة ) قال بعض العلماء إذا تنازعا حائطا مبيضا هل هو متعلق لدارك أو لداره فأمر الحاكم بكشف البياض لينظر إن جعلت الأجرة في الكشف عليه فمشكل لأن الحق قد يكون لخصمك ، والأجرة ينبغي أن تكون على من يقع له العمل ، وينفعه ، ولا يمكن أن تقع الإجارة على من يثبت له ملك لأنكما جزمتما بالملكية فما وقعت الإجارة إلا جازمة وكذلك القائف لو امتنع إلا بأجر قال ويمكن أن يقال يلزم الحاكم كل واحدة منهما باستجارة ، ويلزم الأجرة في الأخير لمن يثبت له ذلك الحق كما يحلف في اللعان وغيره ، وأحدهما كاذب ا هـ . كلام الأصل ، وسلمه ابن الشاط والله أعلم

( الوصل الثاني ) في الأصل قال بالقمط وشواهد الحيطان مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، وجماعة من العلماء ا هـ .

وفي التبصرة ودليل القضاء بما يظهر من قرائن الأحوال ، والأمارات من الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى { تعرفهم بسيماهم } فدل على أن السيماء المراد بها حال يظهر على الشخص حتى إذا رأيناه ميتا في دار الإسلام وعليه زنار ، وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين ، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء ، وقد اختلف في المذهب إن وجد هذا المذكور مخنونا ففي كتاب ابن حبيب أنه لا يصلى عليه لأن النصارى يختتنون .

وقال ابن وهب يصلى عليه وقوله تعالى { وجاءوا على قميصه بدم كذب } الآية ، وقال عبد المنعم بن الغرس روي أن إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم ير فيه خرقا ولا أثر ناب فاستدل بذلك على كذبهم وقال لهم متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ، ولا يخرق قميصه قال القرطبي في تفسير القرآن العظيم قال علماؤنا لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم قرن الله بهذه العلامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التمزيق إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف ، وهو لابس القميص ، ويسلم القميص .

وأجمعوا على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بصحة القميص فاستدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه وقوله تعالى { وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه [ ص: 169 ] قد من دبر إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } .

قال ابن الغرس هذه الآية يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا يحضره البينات .

وكون تلك الشريعة لا تلزمنا لا يسلم لأن كل ما أنزله الله علينا فإنما أنزله لفائدة فيه ومنفعة لنا قال الله تعالى { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فآية يوسف صلوات الله وسلامه عليه مقتدى بها معمول عليها .

وأما ما ورد في السنة النبوية فمواضع منها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بموجب اللوث في القسامة ، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ، ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة ، والحديث فيه ذكر العداوة بينهم ، وأنه قتل في بلدهم ، وليس فيها غير اليهود أو أنه قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه ، ولكن جهلوا عين القاتل ، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثا فلذلك جرى حكم القسامة فيه ومنها ما ورد في الحديث الصحيح في قصة الأسرى من قريظة لما حكم فيهم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية فكان بعضهم عدم البلوغ فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزرهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره . وذلك من الحكم بالأمارات ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها ، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة ومنها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالقافة ، وجعلها دليلا على ثبوت النسب . وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات ومنها أن ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسحتما سيفيكما قالا لا فقال صلى الله عليه وسلم أرياني سيفيكما فلما نظر فيهما قال لأحدهما هذا قتله ، وقضى له بسلبه ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير بعقوبة الذي اتهمه بإخفاء كنز ابن أبي الحقيق فلما ادعى أن النفقة والحروب أذهبته قال صلى الله عليه وسلم العهد قريب ، والمال أكثر ومنها أنه صلى الله عليه وسلم فعل بالعرنيين ما فعل بناء على شاهد الحال ، ولم يطلب بينة بما فعلوا ، ولا وقف الأمر على إقرارهم ، ومنه حكم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، والصحابة معه متوفرون برجم المرأة إذا ظهر بها حمل ، ولا زوج لها ، وقال بذلك مالك وأحمد بن حنبل اعتمادا على القرينة الظاهرة ومنها ما رواه ابن ماجه وغيره { عن جابر بن عبد الله قال أردت السفر إلى خيبر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته } فأقام العلامة مقام الشهادة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم { الأيم أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها } فجعل صماتها قرينة على الرضا ، وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت .

وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن ومنها حكم عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله تعالى عنهم ، ولا يعلم لهم مخالف بوجوب الحد على من وجد من فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادا على القرينة الظاهرة ، وهو مذهب مالك رضي الله تعالى عنه ا هـ ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية