الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 510 ] [ التمائم والحجب ]

      وفي التمائم المعلقات إن تك آيات مبينات     فالاختلاف واقع بين السلف
      فبعضهم أجازها والبعض كف



      ( وفي التمائم المعلقات ) ; أي التي تعلق على الصبيان والدواب ونحوها إن تك هي ; أي التمائم ( آيات ) قرآنية ( مبينات ) وكذلك إن كانت من السنن الصحيحة الواضحات فالاختلاف في جوازها واقع بين السلف من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم ( فبعضهم ) ; أي بعض السلف ( أجازها ) ، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهما من السلف ، والبعض منهم ( كف ) ; أي منع ذلك وكرهه ولم يره جائزا ، منهم عبد الله بن عكيم وعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وعبد الله بن مسعود وأصحابه كالأسود وعلقمة ومن بعدهم كإبراهيم النخعي وغيرهم رحمهم الله تعالى . ولا شك أن منع ذلك أسد لذريعة الاعتقاد المحظور ، لا سيما في زماننا هذا ، فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة المقدسة والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال ، فلأن يكره في وقتنا هذا وقت الفتن والمحن أولى وأجدر بذلك ، كيف وهم قد توصلوا بهذه الرخص إلى محض المحرمات وجعلوها حيلة ووسيلة إليها ، فمن ذلك أنهم يكتبون في التعاويذ آية أو سورة أو بسملة أو نحو ذلك ثم يضعون تحتها من الطلاسم الشيطانية ما لا يعرفه إلا من اطلع على كتبهم ، ومنها أنهم يصرفون قلوب العامة عن التوكل على الله عز وجل إلى أن تتعلق قلوبهم بما كتبوه ، بل أكثرهم يرجفون بهم ولم يكن قد أصابهم شيء ، فيأتي أحدهم إلى من أراد أن يحتال على أخذ ماله مع علمه أنه قد أولع به فيقول له : إنه سيصيبك في أهلك أو في مالك أو في نفسك كذا وكذا ، أو يقول له : إن معك قرينا من الجن أو نحو ذلك ويصف له أشياء ومقدمات من الوسوسة الشيطانية موهما أنه صادق الفراسة فيه شديد الشفقة عليه حريص على جلب النفع إليه ، فإذا [ ص: 511 ] امتلأ قلب الغبي الجاهل خوفا مما وصف له حينئذ أعرض عن ربه وأقبل على ذلك الدجال بقلبه وقالبه والتجأ إليه وعول عليه دون الله عز وجل ، وقال له : فما المخرج مما وصفت وما الحيلة في دفعه ؟ كأنما بيده الضر والنفع ، فعند ذلك يتحقق فيه أمله ويعظم طمعه فيما عسى أن يبذله له فيقول له : إنك إن أعطيتني كذا وكذا كتبت لك من ذلك حجابا طوله كذا وعرضه كذا ، ويصف له ويزخرف له في القول ، وهذا الحجاب علقه من كذا وكذا من الأمراض . أترى هذا - مع هذا الاعتقاد - من الشرك الأصغر ، لا بل هو تأله لغير الله وتوكل على غيره والتجاء إلى سواه وركون إلى أفعال المخلوقين وسلب لهم من دينهم ، فهل قدر الشيطان على مثل هذه الحيل إلا بوساطة أخيه من شياطين الإنس ؟ : ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ) ( الأنبياء : 42 ) .

      ثم إنه يكتب فيه مع طلاسمه الشيطانية شيئا من القرآن ويتعلقه على غير طهارة ويحدث الحدث الأصغر والأكبر وهو معه أبدا لا يقدسه عن شيء من الأشياء ، تالله ما استهان بكتاب الله أحد من أعدائه استهانة هؤلاء الزنادقة المدعين الإسلام به ، والله ما نزل القرآن إلا لتلاوته والعمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق خبره والوقوف عند حدوده والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والإيمان به ، كل من عند ربنا ، وهؤلاء قد عطلوا ذلك كله ونبذوه وراء ظهورهم ولم يحفظوا إلا رسمه كي يتأكلوا به ويكتسبوا كسائر الأسباب التي يتوصلون بها إلى الحرام لا الحلال ، ولو أن ملكا أو أميرا كتب كتابا إلى من هو تحت ولايته أن افعل كذا واترك كذا ، وأمر من في جهتك بكذا وانههم عن كذا ونحو ذلك ، فأخذ ذلك الكتاب ولم يقرأه ولم يتدبر أمره ونهيه ولم يبلغه إلى غيره ممن أمر بتبليغه إليه ، بل أخذه وعلقه في عنقه أو عضده ولم يلتفت إلى شيء مما فيه البتة لعاقبه الملك على ذلك أشد العقوبة ولسامه سوء العذاب ، فكيف بتنزيل جبار السماوات والأرض ، الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ، هو حسبي لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .


      وإن تكن مما سوى الوحيين     فإنها شرك بغير مين
      [ ص: 512 ] بل إنها قسيمة الأزلام     في البعد عن سيما أولي الإسلام



      ( وإن تكن ) ; أي التمائم ( مما سوى الوحيين ) بل من طلاسم اليهود وعباد الهياكل والنجوم والملائكة ومستخدمي الجن ونحوهم ، أو من الخرز أو الأوتار أو الحلق من الحديد وغيره ، ( فإنها شرك ) ; أي تعلقها شرك ( بدون مين ) ; أي شك ، إذ ليست من الأسباب المباحة والأدوية المعروفة ، بل اعتقدوا فيها اعتقادا محضا أنها تدفع كذا وكذا من الآلام لذاتها لخصوصية زعموا فيها كاعتقاد أهل الأوثان في أوثانهم ، ( بل إنها قسيمة ) ; أي شبيهة ( الأزلام ) التي كان يستصحبها أهل الجاهلية في جاهليتهم ويستقسمون بها إذا أرادوا أمرا ، وهي ثلاثة قداح مكتوب على أحدها : افعل ، والثاني : لا تفعل ، والثالث : غفل ، فإن خرج في يده الذي فيه افعل مضى لأمره ، أو الذي فيه لا تفعل ترك ذلك ، أو الغفل أعاد استقسامه . وقد أبدلنا الله تعالى - وله الحمد - خيرا من ذلك : صلاة الاستخارة ودعاءها .

      والمقصود أن هذه التمائم التي من غير القرآن والسنة شريكة للأزلام وشبيهة بها من حيث الاعتقاد الفاسد والمخالفة للشرع ( في البعد عن سيما أولي الإسلام ) ; أي عن زي أهل الإسلام ، فإن أهل التوحيد الخالص من أبعد ما يكون عن هذا وهذا ، والإيمان في قلوبهم أعظم من أن يدخل عليه مثل هذا ، وهم أجل شأنا وأقوى يقينا من أن يتوكلوا على غير الله أو يثقوا بغيره . وبالله التوفيق .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية