الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر شيء من أخبار عضد الدولة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو شجاع بن ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه الديلمي ، صاحب العراق ، وملك بغداد وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 411 ] وهو أول من تسمى " شاهنشاه " ، ومعناه ملك الملوك ، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أوضع اسم - وفي رواية : أخنع اسم - عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد ، وأول من خطب له بها مع الخليفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن خلكان أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة كالمتنبي وغيره ، فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبد الله السلامي في قصيدة له :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إليك طوى عرض البسيطة جاعل قصارى المطايا أن يلوح لها القصر     فكنت وعزمي في الظلام وصارمي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر     وبشرت آمالي بملك هو الورى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن خلكان : وهذا هو السحر الحلال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المتنبي أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى     ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : وليس في الطلاوة كقول السلامي ، ولا استوفى المعنى كله ، فإنه لم يذكر الدهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر أحمد الأرجاني القاضي في قصيدة له بيتا ، فلم يلحق السلامي [ ص: 412 ] أيضا ، وهو قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقيته فرأيت الناس في رجل     والدهر في ساعة والأرض في دار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان وكتب إليه أفتكين مولى أخيه صاحب دمشق يستمده بجيش يقاتل به الفاطميين ، فكتب إليه عضد الدولة : غرك عزك ، فصار قصار ذلك ذلك ، فاخش فاحش فعلك ، فعلك بهذا تهدا . قال ابن خلكان : ولقد أبدع فيها كل الإبداع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لأحد ممن كان قبله ، وقد ذكرنا أنه كان ذا همة وصرامة وعزم ، اجتهد في عمارة بغداد والطرقات ، وأجرى النفقات والصدقات على المجاورين بالحرمين وأهل البيوتات ، وحفر الأنهار ، وبنى المارستان العضدي ، وأدار السور على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله في مدة ملكه على العراق ، وكانت خمس سنين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان عاقلا فاضلا ، حسن السياسة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، إلا أنه كان يتجاوز في سياسته الأمور الشرعية ، كان يحب جارية ، فألهته عن تدبير المملكة ، فأمر بتغريقها ، وبلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة ، فضربه بسيفه فقطعه نصفين ، وهذه مبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان سبب موته داء الصرع ، وحين أخذته علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه [ الحاقة : 28 ، 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 413 ] وحكى ابن الجوزي : أنه كان يحب العلم والفضيلة ، وكان يقرأ عنده " كتاب إقليدس " وكتاب النحو لأبي علي الفارسي ، وهو " الإيضاح والتكملة " الذي صنفه له وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر أن له شعرا ، فمنه قوله ، وقد خرج مرة إلى بستان له فقال : أود لو جاء المطر ، فنزل المطر فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس شرب الكأس إلا في المطر     وغناء من جوار في السحر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      غانيات سالبات للنهى     ناغمات في تضاعيف الوتر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      راقصات زاهرات نجل     رافلات في أفانين الحبر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مطربات محسنات مجن     رافضات الهم إبان الفكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مبرزات الكأس من مخزنها     مسقيات الخمر من فاق البشر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عضد الدولة وابن ركنها     مالك الأملاك غلاب القدر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سهل الله له بغيته     في ملوك الأرض ما دار القمر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأراه الخير في أولاده     ليساس الملك فيهم بالغرر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فيقال : إنه منذ قال : غلاب القدر ، لم يفلح بعدها . وذكر غيره : [ ص: 414 ] أن هذه الأبيات آخر ما أنشدت فيه بين يديه ، ثم كانت وفاته عقب ذلك ، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ، عن سبع أو ثمان وأربعين سنة ، وحمل إلى مشهد علي ، فدفن فيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كتب على قبره في التربة التي بنيت له عند مشهد علي : هذا قبر عضد الدولة وتاج المملكة أبي شجاع بن ركن الدولة ، أحب مجاورة هذا الإمام المتقي لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها [ النحل : 111 ] والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تمثل عند موته بهذه الأبيات ، وهي للقاسم بن عبيد الله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قتلت صناديد الرجال فلم أدع     عدوا ولم أمهل على ظنه خلقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأخليت دور الملك من كل نازل     فشردتهم غربا وشردتهم شرقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما بلغت النجم عزا ورفعة     وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رماني الردى سهما فأخمد جمرتي     فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأذهبت دنياي وديني سفاهة     فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم جعل يكرر هذه الآية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه إلى أن مات كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأجلس ابنه صمصام الدولة على الأرض ، وعليه ثياب السواد ، وجاءه الخليفة الطائع معزيا ، وناح النساء عليه في الأسواق أياما كثيرة ، ولما انقضى العزاء [ ص: 415 ] ركب صمصامة إلى دار الخلافة ، فخلع عليه الخليفة سبع خلع ، وطوق وسور ، وألبسه التاج ، ولقبه شمس الدولة ، وولاه ما كان يتولاه أبوه من قبله ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب ، أبو بكر الحريري المعروف بزوج الحرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم ، وعنه ابن رزقويه وابن شاذان والبرقاني ، وقال : كان جليلا ، أحد العدول الثقات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب وابن الجوزي : سبب تسميته بزوج الحرة أنه كان يدخل إلى مطبخ ابنة بدر مولى المعتضد ، التي كانت زوجة المقتدر بالله ، فلما توفي المقتدر ، وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات ، كثيرة الأموال ، وكان هذا وهو غلام شاب حدث السن يحمل شيئا من حوائح الطعام على رأسه ، فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم ، وكان شابا رشيقا حركا ، فنفق على القهرمانة فقدمته حتى جعلته كاتبا على المطبخ ، ثم ترقت به الحال إلى أن صار وكيلا ينظر في الضياع والعقار ، ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب ، فعلقت به وأحبته ، وسألته أن يتزوج بها ، فاستصغر نفسه ، وخاف من غائلة ذلك ، فشجعته هي وأعطته مالا جزيلا ليظهر عليه من الحشمة والسعادة ما يناسبها ; ليتأهل لذلك ، ثم شرعت تهادي القضاة والأكابر ، ثم عزمت على [ ص: 416 ] تزويجه ، ورضيت به عند حضور القضاة ، واعترض أولياؤها عليها ، فغلبتهم بالمكارمات والهدايا ، ودخل عليها فمكثت معه دهرا طويلا ، ثم توفيت قبله ، فورث منها نحوا من ثلاثمائة ألف دينار ، وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة ، رحمه الله تعالى وإيانا بمنه وكرمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية