الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما تخلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان ، وقاتل أخاه إبراهيم ، وأسره وقتله ، وتمكن من أمره ، وطابت نفسه ، واستقر حاله ، ولم يبق له في تلك البلاد منازع ، كتب إلى قريش بن بدران ، من الأعراب ، يأمره بأن يعاد الخليفة إلى داره ، على ما كان عليه ، وتوعده على ترك ذلك بأسا شديدا ، فكتب إليه قريش يتلطف به ، ويسالمه ، ويقول : أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه ، حتى يمكن الله منه ، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة ، أو يبدر إليه أحد بأذية ، ولكني سأعمل لما أمرتني بكل ما يمكنني . وأمر برد امرأة الخليفة الخاتون المعظمة أرسلان خاتون إلى دارها وقرارها . ثم إنه راسل البساسيري ، وأشار إليه بعود الخليفة إلى داره ، وخوفه من جهة الملك طغرلبك ، وقال له فيما قال : إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر ، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ ، ولم يأتنا من جهتة رسول ولا أحد ، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه ، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد . وجاء كتاب من الملك طغرلبك عنوانه : إلى الأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران مولى أمير المؤمنين ، من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق . وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان : حسبي الله . وكان في الكتاب : والآن قد سرت بنا المقادير إلى قتال [ ص: 767 ] كل عدو للدين والملك ، ولم يبق لنا وعلينا في المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين ، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه ، فإن الذي يلزمنا ذلك ، ولا فسحة في التضجيع فيه ساعة من الزمان ، وقد أقبلنا بخيول المشرق إلى هذا المهم العظيم ، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إتمام السعي النجيح الذي وفق له وتفرد به ، وهو أن يتم وفاءه من أمانته وخدمته في باب سيدنا ومولانا أمير المؤمنين من أحد وجهين : إما أن يقبل به مكرما إلى وكر عزه ، ومثوى إمامته ، وموقف خلافته من مدينة السلام ، وينتدب بين يديه متوليا أمره ، ومنفذا حكمه ، وشاهرا سيفه وقلمه ، وذلك المراد ، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة ، ونوليه العراق بأسرها ونصفي له مشارع برها وبحرها ، لا يطأ حافر خيل من خيول العجم شبرا من أراضي تلك المملكة إلا بالتماسه لمعاونته ومظاهرته ، وإما أن يحافظ على شخصه العالي بتحويله من القلعة إلى حلته أو في القلعة إلى حين لحاقنا بخدمته ، فنتكفل بإعادته ، ويكون الأمير الجليل مخيرا بين أن يلتقي بنا أو يقيم حيث شاء فنوليه العراق كلها ، ونستخلفه في الخدمة الإمامية ، ونصرف أعنتنا إلى الممالك الشرقية ، فهممنا لا تقتضي إلا هذا الغرض المفترض ، ولا تسف إلى مملكة من تلك الممالك بل الهمة دينية ، وهو - أدام الله تمكينه - يتيقن ما ذكرنا ، ويعلم أن توجهنا إثر هذا الكتاب لهذا الغرض المعلوم ولا غرض سواه ، فلا يشعرن قلوب عشائره رهبته ، فإنهم كلهم [ ص: 768 ] إخواننا وفي ذمتنا وعهدنا ، وعلينا به عهد الله وميثاقه ما داموا موافقين للأمير الأجل في موالينا ومن اتصل به من سائر العرب والعجم والأكراد ، فإنهم مقرون وفي جملته داخلون في عهدنا وذمتنا وعهده وذمته ، ولكل مجترم في العراق عفونا وأمننا مما بدر منه إلا البساسيري ، فإنه لا عهد له ولا أمان منا ، وهو موكول إلى الشيطان وتساويله ; فقد ارتكب في دين الله عظيما ، وهو إن شاء الله مأخوذ حيث وجد ومعذب على ما عمل ، فقد سعى في دماء خلق كثير بسوء دخيلته ، ودلت أفعاله على سوء عقيدته . وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبعث بهذا الكتاب مع رسولين من أهل العلم ، وبعث معهما بتحف عظيمة للخليفة ، وأمرهما أن يخدما الخليفة نيابة عنه ، جزاه الله عن الإسلام خيرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران ، استعلم أخبار الملك طغرلبك من الرسل وغيرهم ، فإذا معه جنود عظيمة ، فخاف من ذلك خوفا شديدا ، وبعث إلى البرية فأمر بحفر أماكن للماء وتجهيز علوفات كثيرة إلى هناك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونفذ الكتاب والأخبار إلى البساسيري ، فانزعج لذلك البساسيري - قبحه الله - وخارت قوته وضعف أمره ، وبعث إلى أهله ، فنقلهم عن بغداد وأرصد له إقامات عظيمة بواسط وجعلها دار مقرته ، ووافق على عود الخليفة إلى بغداد ولكن اشترط شروطا كثيرة لتذهب خجله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما انتقل أهل البساسيري من بغداد وصحبتهم أهل الكرخ والروافض - قبحهم الله تعالى - وانحدروا في دجلة إلى واسط كان خروجهم عن بغداد في سادس ذي القعدة من هذه السنة ، وفي مثله من العام الماضي دخلوا بغداد وعند ذلك ثار الهاشميون وأهل السنة من باب [ ص: 769 ] البصرة إلى الكرخ ، فنهبوا وأحرقوا منه محال كثيرة جدا ، واحترق من جملة ذلك دار العلم التي كان وقفها الوزير أردشير من مدة سبعين سنة ، وفيها من الكتب شيء كثير ، وكان في جملة ما احترق درب الزعفران وفيه ألف ومائتا دار ، لكل دار منها قيمة جليلة عظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وترحل قريش بن بدران إلى أرض الموصل وبعث إلى حديث عانة يقول لأميرها مهارش بن مجلي الذي سلم إليه الخليفة : المصلحة تقتضي أن الخليفة تحوله إلي حتى نستأمن لأنفسنا بسببه ، ولا تسلمه حتى تستأمن لنا ، وتأخذ أمانا في يدك دون يدي ، فامتنع عليه مهارش ، وقال : قد غرني البساسيري ووعدني بأشياء لم أرها ، ولست بمرسله إليك أبدا ، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان مهارش رجلا صالحا ثقة أمينا - رحمه الله - فقال للخليفة : من المصلحة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل ، وننظر ما يكون من أمر السلطان طغرلبك فإن ظهر دخلنا بغداد وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا ، فإنا نخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا . فقال له الخليفة : افعل ما فيه المصلحة . فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا فلقيته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا والتحف التي كان أنفذها إليه ، وهو متشوق كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك قد دخل بغداد ، وكان يوما مشهودا ، غير أن الجيش نهبوا البلد سوى دار الخليفة ، وصودر خلق كثير من التجار ، وأخذت منهم أموال كثيرة ، وشرعوا في عمارة دار الملك ، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها ، وسرادق [ ص: 770 ] عظيمة ، وملابس سنية وما يليق بالخليفة في السفر ، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري ، ولما انتهوا إليه أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه ، وقال لمن حوله : اضربوا السرادق ، وليلبس الخليفة ما يليق به ، ثم نجيء نحن فنستأذن عليه ، فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة . فلما دخل الوزير ومن معه قبلوا الأرض وأخبروه بسرور السلطان بما حصل من العود إلى بغداد واشتياقه إليه جدا ، وأخبروا مهارشا بشكر السلطان له ونيته له بما ينبغي لمثله من الإكرام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب عميد الملك كتابا إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى الأمر عليه ، وأحب أن يأخذ خط الخليفة في أعلا الكتاب ; ليكون أقره لعين السلطان ، فلم يكن عند الخليفة دواة ، وأحضر الوزير دواته ومعها سيف ، وقال : هذه خدمة السيف والقلم ، فأعجب الخليفة ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين ، فلما وصلوا إلى النهروان خرج السلطان طغرلبك من بغداد لتلقيه ، فلما انتهى إلى السرادق قبل الأرض بين يدي الخليفة سبع مرات ، فأخذ الخليفة مخدة ، فوضعها بين يديه ، فأخذها الملك فقبلها ، ثم جلس عليها ، كما أشار أمير المؤمنين ، وقدم إلى الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه ، فوضعه بين يدي الخليفة ، وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار ، وقال : أرسلان خاتون - يعني زوجة الخليفة - تخدم وتسأل أن تسبح بهذه السبحة ، وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه إبراهيم ، فقتلته ، واتفق موت أخي الأكبر داود ، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده ، وكنت عزمت على أن أصمد إلى الحديثة ; لأصون المهجة الشريفة ، ولكن لما بلغني ، بحمد الله ، أمر مولاي أمير المؤمنين الخليفة ، فرحت بذلك وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين ، وأنا [ ص: 771 ] إن شاء الله تعالى ، أمضي وراء هذا الكلب - البساسيري - وأقتنصه ، وأعود إلى الشام وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة بما كان من فعل البساسيري هاهنا . فدعا له الخليفة ، وشكره على ذلك كل ذلك يترجمه عميد الملك بين الخليفة والملك طغرلبك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأعطى الخليفة للملك سيفا كان معه لم يبق معه من أمور الخلافة سواه ، واستأذن الملك لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة فرفعت الأستار عن جوانب الخركاه ، فلما شاهد الأتراك الخليفة ، قبلوا الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخل بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة ، وكان ذلك يوما مشهودا ، الجيش كله معه ، والقضاة والأعيان بين يديه ، والملك طغرلبك آخذ بلجام بغلته حتى وصل إلى باب الحجرة ، ولما وصل الخليفة إلى دار مملكته ومقر خلافته ، استأذنه السلطان طغرلبك في الخروج وراء البساسيري ، فأذن له ، وكان قد عزم على أن يمضي معه فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا أكفيك ذلك إن شاء الله . وأطلق الملك لمهارش عشرة آلاف دينار ، فلم يرض .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشرع السلطان في ترتيب الجيوش للمسير وراء البساسيري ، فأرسل جيشا من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام وخرج هو في التاسع والعشرين من الشهر في بقية الجيش ، وأما البساسيري ، فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وتمور يهيئها لقتال أهل بغداد ومن فيها من الغز ، وعنده أن الملك طغرلبك ومن معه ليسوا بشيء يخاف منه ، وذلك لما يريده الله تعالى من إهلاكه على يدي الملك طغرلبك جزاه الله عن الإسلام خيرا ، آمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية