الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ، ليدخلوا الجنة ، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب " الأهوال " : حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا محمد بن ثابت البناني ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب للأنبياء يوم القيامة منابر من ذهب ، فيجلسون عليها " . قال : " ويبقى منبري لا أجلس عليه ، قائما بين يدي الله ، عز وجل ، منتصبا بأمتي ; مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي ، فأقول : يا رب أمتي ، فيقول الله : يا محمد ، وما تريد أن أصنع بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى بهم ، فيحاسبون ، فمنهم من يدخل الجنة برحمة الله ، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، وما أزال أشفع حتى أعطى [ ص: 190 ] صكاكا برجال قد بعث بهم إلى النار ، حتى أن مالكا خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك لأمتك من نقمة " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحدثنا إسماعيل بن عبيد بن عمر بن أبي كريمة ، حدثني محمد بن سلمة ، عن أبي عبد الرحيم ، حدثني زيد بن أبي أنيسة ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أبي هريرة ، قال : " يحشر الناس عراة ، فيجتمعون شاخصة أبصارهم إلى السماء ، ينتظرون فصل القضاء قياما أربعين سنة ، فينزل الله عز وجل ، من العرش إلى الكرسي ، فيكون أول من يدعى إبراهيم الخليل ، عليه الصلاة والسلام ، فيكسى قبطيتين من الجنة ، ثم يقول : ادعوا لي النبي الأمي محمدا " . قال : " فأقوم ، فأكسى حلة من ثياب الجنة " . قال : " ويفجر لي الحوض ، وعرضه كما بين أيلة إلى الكعبة " . قال : " فأشرب وأغتسل وقد تقطعت أعناق الخلائق من العطش ، ثم أقوم عن يمين الكرسي ، ليس أحد يومئذ قائما ذلك المقام غيري ، ثم يقال : سل تعطه ، واشفع تشفع " . قال : فقال رجل : أترجو لوالديك شيئا يا رسول الله ؟ قال : " إني لشافع لهما ، أعطيت أو منعت ، وما أرجو لهما شيئا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال المنهال : حدثني عبد الله بن الحارث أيضا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار ، فيقولون : يا محمد ، ننشدك [ ص: 191 ] الشفاعة " . قال : " فآمر الملائكة أن يقفوا بهم " . قال : " فأنطلق فأستأذن على الرب عز وجل ، فيؤذن لي فأسجد ، وأقول : يا رب ، قوم من أمتي قد أمرت بهم إلى النار " . قال : " فيقول : انطلق فأخرج منهم " . قال : " فأنطلق ، فأخرج منهم من شاء الله أن أخرج ، ثم ينادي الباقون : يا محمد ، ننشدك الشفاعة . فأرجع إلى الرب عز وجل ، فأستأذن ، فيؤذن لي فأسجد ، فيقال لي : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع " . قال : " فأقوم فأثني على الله سبحانه ثناء لم يثن عليه أحد ثناء مثله ، فأقول : يا رب ، قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار . فيقول : انطلق ، فأخرج منهم " . قال : " فأقول : يا رب ، أخرج منهم من قال لا إله إلا الله ، ومن كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ؟ " قال : " فيقول : يا محمد ، ليست تلك لك ، تلك لي " . قال : " فأنطلق فأخرج من شاء الله أن أخرج " . قال : " ويبقى قوم فيدخلون النار ، فيعيرهم أهل النار فيقولون : أنتم كنتم تعبدون الله ، ولا تشركون به شيئا ، فما الذي أدخلكم النار ؟! " قال : " فيحرجون ويحزنون من ذلك " . قال : " فيبعث الله ملكا بكف من ماء فينضح بها في النار التي فيها الموحدون ، فلا يبقى أحد من أهل لا إله إلا الله إلا وقعت في وجهه منها قطرة " . قال : " فيعرفون بها . ويغبطهم أهل النار ، ثم يخرجون فيدخلون الجنة ، فيقال لهم : انطلقوا ، فتضيفوا الناس . فلو أن جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ، ويسمون المحررين " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا السياق يقتضي تعداد هذه الشفاعة فيمن أمر بهم إلى النار ثلاث مرات [ ص: 192 ] أن لا يدخلوها ، ويكون معنى قوله : " فأخرج " . أي أنقذ ، بدليل قوله بعد ذلك : " ويبقى قوم فيدخلون النار " . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية